Quantcast
Channel: وليد الزهيري
Viewing all 58 articles
Browse latest View live

كحك العيد

$
0
0
لم يسمع جرس الباب المتداخل مع صوت خرير الماء وهو يتوضأ لصلاة الفجر، سُحب مزلاج باب الشقة تبعه "أزيز"مفاصل الباب الصدئة في سكون الليل، جفف ساعديه خارجاً من الحمام، رأى ظهر الشغالة المسرعة إلى الداخل فوق رأسها "صاجات"الكعك مخاطبة زوجته:
ـ حططيني يا حاجة.
رفعت زوجته ـ ذات الأصول التركية ـ يديها لأعلى لمساعدة الشغالة فيما تحمله، هبطا سوياً لأسفل حتى استقر المقام بالصاجات فوق مائدة السفرة في الصالة الطولية المليئة بأبواب شامخة أعلى منها سقف شاهق، نظرت زوجته للكعك:
ـ جوزال ـ جميل ـ سعدية جوزال.
ـ الحمد لله إننا خلصنا.. "الفرن الإفرنجي"زحمة موت.

داعبت رائحة الكعك الذكية أنفه وهو متجه لحجرته، مستمعاً لحوارهما:
ـ ممكن السكر السنترفيش من المطبخ.
ـ حاضر.

خرج من حجرته مرتدياً جلباباً أبيض على رأسه "طقية"بيضاء مدارياً بها رأساً خاويا إلا ماندر من شعر أشيب، اتكأ على عكازه ذي القطعة الكاوتشوك لتجنب ضجيجه كلما اصطدم بالأرضية "الباركية"باهتة اللون، ألقى بنظرة عابرة أثناء نثرهما السكر فوق الكعك، أشار لزوجته وهو يفتح الباب ضاماً سبابته وإبهامه وهو يحركهما في إشارة تعني "نقودا"قائلاً:
ـ كل سنة وأنت طيبة يا "سعدية".
ـ وأنت طيب يا عم الحاج.

صلى الفجر بالزاوية القريبة من بيته التي يقضي بها كثيراً من وقته بعد تقاعده على المعاش بدرجة وكيل وزارة سابق، كبر مع المصلين ثلاث مرات تكبيرات العيد، عاد لبيته بصحبة عكازه، أدار المفتاح في باب شقته، امتلأت المائدة بأصناف شتى من الكعك والبسكويت والغريّبة والبيتي فور غلبت رائحة المحوجة على كافة الأصناف، ابتسم قائلاً:
ـ لسه بتعملي محوجة يا حاجة؟

محاولة إخفاء الإرهاق البادي على ملامحها:
ـ أكتر صنف بيحبه الولاد.
ـ "سعدية"روحت؟

أدارت رأسها للخلف متابعة خطواته بصوتها:
ـ أيوه، هتعيد مع أمها وبتشكرك.
ـ مش هتريحي شوية مقعدتيش من صباحية ربنا.
ـ هاحضر نصيب كل واحد من الولاد، وأجهز الفطار.

أخذته غفوة على سريره، أيقظته تكبيرات العيد من كل حدب وصوب، نهض من فراشه مجدداً وضوءه، مخترقاً مسامعه صوت بعض الأواني بالمطبخ. انتفضت زوجته بالمطبخ على صوت الباب أثناء خروجه مرددة داخلها:
ـ إيفت ـ أيوه ـ كدة "شنطة"لكل واحد من الولاد، أحضر الفطار بقى.

عاد بعد سماعه خطبة صلاة العيد، استقبلته حفيدته الصغرى ذات السنوات الثلاث:
ـ تُل سنة وأنت طيب يا ديدو.

انحنى إليها مستعيناً بعكازه ليقبلها واضعاً في كفها الصغير عشرة جنيهات:
ـ وأنت طيبة يا حبيبة جدو.

ضمت كفها الصغير حول أصبعه متجهة به إلى مائدة الإفطار استقبلته ابنتاه الكبرى والوسطى وزوج كل منهن وولده الوحيد وزوجته:
ـ كل سنة وأنتم طيبين يا ولاد.
لم تتوقف أيديهم عن أهدافها على المائدة، قائلين بأصوات متباينة:
ـ وأنت طيب يا بابا.

وجه نفس الجملة لأحفاده بالحجرة المجاورة له، لم يلتفتوا لمصدر الصوت وأعينهم لا تفارق شاشة التليفزيون وكل منهم بيده طبق قائلين في صوت واحد:
ـ وأنت طيب يا جدو.

اعتدل في جلسته، متبادلاً ابتسامة صامتة مع زوجته وهي في مقعدها المقابل له وأولادهم حولهم، كسر الصمت زوج ابنته الكبرى الممسك بعود جرجير وهو ينفضه من الماء وفمه ممتلئ:
ـ العيد السنة دي ملوش طعم.

أيدته في الرأي زوجته:
ـ أيوه، فين أعياد زمان.

تابعت زوجة الابن على الجانب المقابل من المائدة الحوار الدائر رافعة نصف حاجبها امتعاضاً، لمحت الأخت الصغرى زوجة أخيها، ومالت على أختها المجاورة لها وغمزتها بمرفقها في غفلة من الجميع، قالت أختها:
ـ أي، بتزغدي ليه؟

كتمت غيظها من أختها التي كشفت أمرها:
ـ أبداً، ناوليني الجبنة.

انتبه الابن للحوار الصامت، محملقاً في زوجته، ثم توجه بنظره إلى أمه:
ـ تسلم ايديكي يا ماما، وحشنا فطارك من زمان.

تبعته زوجته وهي تمد يدها إلى طبق "الأومليت":
ـ طبعاً مش "تركية"وحشتني "الضلمة"بتاعتك يا ماما.

عقبت الابنة الكبرى.
ـ الضلمة بس، ماما أكلها كله طِعم.

فضت الأم الاشتباك:
ـ بالهنا والشفا يا ولاد.

جاء الحفيد الأكبر من خلف جده ممسكاً بطبقه:
ـ مفيش كمان يا ماما.

أشارت إليه بعينيها:
ـ طبعاً يا حبيبي قول لـ"آنا".

أمسكت الجدة بطبق حفيدها تعد له مزيجاً من كل شيء، مد الحفيد يده إلى طبق الفول وهو واقف، أعطته الجدة طبقه الذي أعدته وهي تعنفه:
ـ يوك ـ لأ ـ حبيب "آنا"، لازم تاكل وأنت قاعد.

نهض زوج الابنة الصغرى لغسل يديه:
ـ تسلم ايديكي يا ماما، كل سنة وأنت طيبة.

مالت الابنة الكبرى على أختها:
ـ هو جوزك ده هيفضل "نِفري"كده؟
ـ والنبي ما أنا عارفة.

لم يتبقَ على المائدة سوى الأختين وزوجة الأخ التي حملت صينية الكعك متجهة إلى حجرة المعيشة، والابنتان توجهتا إلى المطبخ لغسيل الأطباق:
ـ شوفتي مرات أخوك، إلا ما مدت إيدها على حاجة تساعدنا.
ـ يادوبك ودت الكحك.
ـ على رجليها نقش الحنة.

انتظر زوج الابنة الكبرى جلوس العائلة كاملةً أمام التلفزيون بعضهم بيده كوب الشاي والبعض الآخر يأكل كعكاً، استقام في وقفته مخرجاً "محفظته"من جيب بنطاله الخلفي، مشيراً بطرف إصبعه لكل الأطفال بالحضور إليه، بدت العملات الورقية جديدة في جوف محفظته المنتفخة، أمسك بطرف إحدى الورقات مقربها إلى فمه نافخاً فيها الهواء مما أصدر صفيراً:
ـ عيدية تدبح رقبة الحمامة.

تبعته زوجته:
ـ كويس إنك لحقت صاحبك في البنك امبارح.

اعتدل في جلسته واضعاً ساقاً فوق الأخرى:
ـ لولا الواسطة مكنتش جبت فلوس جديدة.

أبدت الجدة انبهارها بذلك الإنجاز الذي حققه، تعالت نغمات الهواتف النقالة المختلفة ما بين الهادئة والدينية والضحكات الرقيعة، معلنة عن وصول رسائل التهنئة بالعيد، ابتسامة عريضة على وجه كل متلق رسالة محاولاً إثارة فضول الحاضرين، وهو يقرأ رسالته مائلاً على من بجواره يقرؤها له كأنه يختصه بسر دفين دون الآخرين، يتبع ذلك نظرة ذهول من الآخر من هول ما اختصه به.. كتم الجد صوت التلفزيون مكتفياً بصورة صامتة لأغاني العيد.

لم يلحظ مضي الوقت، التفت إلى بعض الأصوات بجوار باب الشقة مال إلى الأمام في جلسته متابعاً بنظره خيالاتهم وهم مغادرون وبأيديهم حقيبة "كعك العيد"، تحركها آخرهن لأسفل مستهينةً بوزنها، تبع ذلك صفعة لباب الشقة.

نظر حوله وجد الحجرة خاوية إلا من نظرات الحسرة على وجه زوجته، نهض من مقعده متجهاً نحوها، مد لها يديه ليصطحبها إلى حجرتهما:
ـ الكحك "جوزال"يا هانم.

ربتت على يده المتكئ بها على عكازه:
ـ تشكرات أفندم. 

في المعقول

$
0
0

صعد درجات السلم لاهثاً ومن خلفه زوجته النحيلة المشرفة على الخمسين وأبنته الأصغر ذات الأربعة عشر عاماً، شغلت نقرات منسأته لحظات السكون كلما صمت المقرئ أثناء تلاوته لآيات الذكر ، تعلقت أعين المعزين بالباب لرؤية صاحب النقرات المهيبة .. تشبث بالباب المصقول المشرع ، وتقدم بخطوات مثقلة في باحة البيت الرحبة ، لمح بطرف عينيه زوجته بملابسها السوداء وأبنته يدلفان إلى الحجرة المجاورة ، وهن يجلسن بين النساء .

تلقفه أهل المتوفي ، مد يده متمتماً :
ـ البقية في حياتكم.

اصطحابه أحدهم ، ترك عكازه بين قدميه وهو جلوس ، خفض عينيه يهندم هيئته، أعجزه (كرشه) المتضخم عن ضم سترة بدلته الرمادية ، أنصت للتلاوة متبادلاً بين حين وآخر نظراته مع زوجته وابنته وهن في الحجرة المقابلة :

 ((وَقَضَىٰ رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُل لَّهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُل لَّهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا ))

مرر يده على صلعته الممتدة ، مجففاً عرقه دون أن ملامسة البقية الباقية من شعره الأبيض ، ترقب وصول المار بين المعزين يحمل فناجين من القهوة ، وهو يتحرك بروية خوفاً من فقدان (وش) الفنجان . أعتدل في جلسته عند وصوله إليه ، ودنا منه هامساً في أذنه :
ـ كوباية شاي ، لو سمحت.

نظر إليه مستغرباً ، وسأله:
ـ سكرك أيه ؟

اجابه بهمس:
ـ في المعقول.

وهو يمد على قدر ما يستطيع في قوله (المعقول) ، تابع خطوات المضيف وهو ذاهباً لتلبية طلبه، مستمراً في إنصاته للمقرئ :
((وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُل رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا ))

تشاغل بمحاولات خفض (كرشه) ليرى موضع منسأته على الأرض ، انفرجت اساريره عندما رأى كوب الشاي الأحمر القاني في طريقه إليه ، تتصاعد منه الأبخرة المتلاشية في الفراغ.

أمسك بكوب الشاي ، ودنا به نحو فمه .. جذبت يد أبنته كوب الشاي من على فمه، عائدة لمجلس النساء .. قائلة بصوت مسموع :
ـ علشان السكر والضغط .

بادل نظرات المعزين بابتسامة بلهاء ، متشاغلاً بمحاولات خفض (كرشه) ليرى موضع منسأته على الأرض.


كود

$
0
0

الأربعاء , 09:00 ص

دفعني إلى داخل حجرة التحقيق:
ـ تمام يا فندم.
نهض من أمام مكتبه، دك الأرض بخطوات هادئة منتظمة، دار حولي دورة كاملة، التفت ناحية شخصان جالسان بأقصى زاوية الحجرة، يرتدي أحدهما معطف أبيض يطوق رقبته بسماعة، تفرس الآخر الأنيق ملامحي من أسفل نظارته مدوناً كل شاردة وواردة، عاد للجلوس خلف مكتبه قائلاً:
ـ أسمك، وسنك، وشغلك؟
ـ مؤيد عبدالحليم، 28 سنة، مهندس اتصالات.
رمقني بنظرات حادة:
ـ ما هي أقوالك فيما هو منسوب إليك بمشاركتك في مظاهرة يوم 9 من الشهر الجاري؟
ـ انا مش بتاع مظاهرات، كنت ماشي في الشارع زي بقية خلق الله.
ـ هتستعبط يا روح أمك، والعساكر اللي اعتديت عليهم بالضرب والسب أثناء تأدية عملهم يبقى أيه؟
ـ أنا لا ضربت ولا سبيت، شوفت في الشارع ناس بيعتدوا على بنت، حاولت أخلصها من أيديهم.. لقيتني هنا عندكم.
وضع يده على مجموعة ملفات فوق مكتبه:
ـ مفيش فايدة من الإنكار.. كل زمايلك اعترفوا ؟
ـ أنا ماليش زمايل.
صرخ في وجه العسكري الواقف خلفي:
ـ مش هتشوفوا شغلكم ولا أيه، يجيلي جاهز بكرة .
أنقض على كتفي بيده الغليظة، مؤدياً التحية:
ـ تمام يا فندم.
أغلق الباب خلفنا وهو يدفعني أمامه في ممر ممتد على يمينه زنازين النساء من (10 إلى 6) وعن يساره حجرات مظلمة تنبعث منها رائحة عطنة، في نهايته انعطفنا يميناً إلى ممر موازي على يمينه زنازين الرجال من (5 إلى 1) ويساره حجرات مظلمة تنبعث منها نفس الرائحة العطنة، والقى بي في زنزانة (1)، مشيراً إلى أخر المحتجزين معي بالخروج للتحقيق بعدما اعترف كل من جاءوا معنا وتم ترحيلهم.

الأربعاء , 11:00 م
سمعت خطواته الغليظة تتجه نحوي، سبق دخوله صرير الباب، دسست علبة سجائري في بنطلوني، غمرني الضوء المنبعث من وراء الباب، تقوقعت في جلستي على الأرض مدققاً النظر، تقدم خطوتين حاجباً ببنيانه الضخم الضوء عني:
ـ فز قوم قامة قيامتك.
نهضت، متقدماً نحوه، جذبني للخارج بالممر مغلقاً الباب:
ـ في تحقيق سواريه، بعد نص الليل يا شاويش؟
دفعني أمامه:
ـ لأ يا خفيف، الزنزانة كبرت عليك بعد ما كل ما زمايلك اعترفوا.
ـ مش هاعترف بحاجة معملتهاش، حتى لو مشيتوا على الحيط؟
قبل أن ينعطف إلى الممر الموازي نحو حجرة التحقيق، فتح باب زنزانة (5)، ودفعني بداخلها:
ـ علشان لماضتك دي، هتشرف هنا لوحدك، في وارد جديد الليلة لزنزانة (1).
وأغلق الباب.
تلمست جدران زنزانتي الرطبة الضيقة، أشعلت سيجارة، شاهدت على ضوئها رسومات بقلم رصاص وعبرات التنديد بالظلم والقهر، استمرت في اكتشاف مكان إقامتي الجديد، دفعت قدماي بشيء صغير إلى أحد الأركان، مشيت خلف مصدر الصوت إلى أن اهتدت يدي إلى (كعب قلم رصاص)، جلست مكانه ممداً قدمي أمامي، وضعته بجوار السيجارة في فمي.

الخميس , 01:00 ص
اعتدلت في جلستي على صوت جلبة عارمة بالممر، أقدام غليظة تركل المؤخرات.. عصي تنهال على الظهور.. صرخات الآلام تتعالى.. يعلو فوقها صوت السباب، وأبواب الزنازين تفتح وتغلق سريعاً، أمسكت بقضبان نافذة الباب محاولاً تبيان خيالات الوارد الجديد، متشبثاً بأهداب الأمل ، إلى أن خبت أمالي مع نيران سيجارتي.
هويت محبطاً .. يائساً .. أسفاً .. واضعاً رأسي بيني ركبتي ويدي، إلى أن سمعت صرخات فتاة وارتطامات بجدار زنزانة (6) الملاصقة لزنزانتي، تعالت الصرخات والارتطامات، وثبت على أطراف أصابعي اسرع في خطواتي قاعاً زنزانتي طولاً وعرضاً، وكلما سمعت ارتطامها بحائط زنزانتي أهرول مصطدماً بالحائط محاولاً دفعهم عن  صاحبة الصرخات، حاولت مرات ومرات أقذفهم بـ (القروانة) تارة .. بالمعلقة تارة ، إلى أن هويت على الأرض لا يفصل بيني وبينهم سوا جدار، خارت قواي إلى مجرد النقر على الحائط بأظافر أصابعي حتى نال التعب مني ومنهم.
بعدما هدئ كل شيء ، نقرت على الحائط الجالس بجواره الفاصل بيني وبين زنزانة (6)، سمعت الرد بنفس النقرات، أعدتها.. وأعادتها، أشعلت سيجاره، نظرت نحو النافذة، مخرجاً زفيراً معبأ بدخان سيجارتى المتسلل من بين قضبانها. سحبت شهيقاً عميقاً وكتمته فجأة، ثم بحثت عن علبة سجائرى في ملابسى، فككت العلبة وجعلتها ورقة مسطحة، أمسكت بـ (كعب القلم الرصاص) وبدأت في كتابة أحرف الهجاء جميعاً وبجوار كل حرف ما يعادله في (شفرة مورس):
أ
. ـ
ب
ـ . . .
ت
ـ
ث
ـ . ـ .
ج
. ـ ـ ـ
ح
. . . .
خ
ـ ـ ـ
د
ـ . .
ذ
ـ ـ . . .
ر
. ـ .
ز
ـ ـ ـ .
س
. . .
ش
ـ ـ ـ ـ
ص
ـ . . ـ
ض
. . . ـ
ط
. . ـ
ظ
ـ ـ . ـ
ع
. ـ . ـ
غ
ـ ـ .
ف
. . ـ .
ق
ـ . ـ ـ
ك
ـ . ـ
ل
. ـ . .
م
ـ ـ
ن
ـ .
هـ
. . ـ . .
و
. ـ ـ
ي
. .
ء
.

1
. ـ ـ ـ ـ
2
. . ـ ـ ـ
3
. . . ـ ـ
4
. . . . ـ
5
. . . . .
6
ـ . . . .
7
ـ ـ . . .
8
ـ ـ ـ . .
9
ـ ـ ـ ـ .
0
ـ ـ ـ ـ ـ

المناداة
. ـ . ـ . ـ . ـ
الابتداء
ـ . ـ . ـ
الانتهاء
. ـ . ـ .


الخميس , 09:00 ص
عبث المفتاح بالباب، نهضت مكوراً ورقة السجائر في يدي، أغلق الباب من خلفي، انعطفنا يساراً نحو الممر الموازي وعندما اقتربت من باب زنزانة (6) القيت بورقة السجائر داخلها من نافذة باب زنزانتها.
دخلنا عليه حجرة التحقيق، كان منهمكاً في مكالمة هاتفية، بادياً عليه التوتر والتركيز الشديد:
ـ تأمر معاليك، ساعة زمن وأكون عندك يا باشا.
دك العسكري الأرض بقدمه:
ـ تمام يا فندم.
سقطت السماعة من يده:
ـ في أيه يا حيوان؟
ـ المتهم يا فندم.
نهض من على مكتبهً، ممسكاً بسترة بدلته، وخرج مسرعاً وهو يرتديها:
ـ رجعه زنزانته مش فاضي له، السبت الساعة (8) يكون قدامي:

الخميس , 10:00 ص
جلست بجوار الحائط الحائل بيني وبينها، وأمسكت بيد ملعقتي وبدأت أرسل لها أولى رسائلي مستخدماً (شفرة مورس)، نقرت بالملعقة على الحائط عدد النقرات والشرط المناسبة:
ـ أسمك أيه؟
وضعت اذني على حائطها منتظراً، إلى أن جاءني ردها من نقاط وشرط (شفرة موريس)، حاولت ترجمته إلا أنه كان غير مفهوماً، أعدت رسالتي عليها، وجاءني ردها غير مفهوماً، وكررت محاولتي الثالثة، حتى استطعت ترجمة ما بعثته:
ـ فاتن .. وأنت؟
اعتدلت في جلستي مبتهجاً لتمكنها من استيعاب الشفرة:
ـ مؤيد، أيه اللي حصل عندك امبارح؟
ـ اتقبض علي في مظاهرة.
ـ أيوه.
ـ دخلوني هنا ونزلوا في ضرب، واتهجموا علي، وكل ما اقاومهم يزودوا في قلة أدبهم، بس محصلش حاجة والحمد لله، هددوني لو معترفتش يوم السبت هيكملوا..
ـ كان نفسي أهد الحيطة اللي بينا وأنقذك من بين ايديهم.
صَمتت ، وصمتٌ لبعض الوقت ..

الخميس , 01:00 م
ـ جتلك فكرة الكتابة دي ازاي؟
ـ أنا مهندس اتصالات، والشفرة دي حاجة عادية في شغلنا.
ـ بس فكرة جميلة.
نظرت للحائط ملياً:
ـ أعدل الياقة بقى.
ـ هاهاهاها .
ـ وأنت اتعلمتيها بسرعة.
ـ حاولات ، أنت طولك قد ايه؟
ـ 180، وأنت؟
ـ 169 .
ـ بتشتغلي؟
ـ أنا طالبة في حقوق.
ـ وما أكثر الحقوق الضائعة في بلدنا.
ـ أنت فيلسوف بقى.
ـ متخديش في بالك.

الخميس , 03:00 م
جلست أأكل متابعاً:
ـ بتحب تاكل أيه؟
ـ المكرونة، وأنت؟
ـ القلقاس، فينه دلوقت.
ارتكنت على الحائط، وأنا أشرب سيجارتي:
ـ بتحب تسمع مين ؟
ـ منير ، وأنت؟
ـ الحجار.
ـ مفيش فرق بينهم.
ـ فعلا.. الاتنين أصحاب قضية.

الجمعة , 02:00 ص
ـ مرتبطة؟
ـ كنت.
ـ والسبب؟
ـ كانت خطوبة صالونات، كان مهندس بترول في البحر الأحمر.
ـ ايوه..
ـ كان مكلف صديق له يراقبني، علشان يعرف أخلاقي.
ـ غريبة.
ـ الأغرب، إنه طلب من صديقه يعاكسني علشان يشوف مدى استجابتي للمعاكسات، وصديقه لما شاف إني حد محترم، صارحني بكل حاجة وطلب أيدي للجواز.
قطعت زنزانتي طولاً وعرضاً، أنفث سيجارتي، وعدت للجدار الحائل بيننا، أنقر بملعقتي:
ـ وبعدين.
ـ فسخت خطوبتي، وطبعاً رفضت صديقه.
ـ وليه خطيبك كان عمل كده اساساً؟
ـ بيشك في صوابعه، علشان..
ـ علشان أيه؟
ـ حلوة حبتين..

الجمعة , 10:00 م
ـ وأنت؟
ـ أنا أيه؟
ـ مرتبط؟
ـ حالياً لأ.
ـ وقبل كدة حبيت؟
ـ مقدرش أقول أه ومقدرش أقول لأ.
ـ دي غنوة؟
ـ عارفة أنت الحب الأفلاطوني؟
ـ أسمع.
ـ حصل معايا في الجامعة.
ـ وبعدين .
ـ مقدرش أنكر كانت فعلاً مشاعر صادقة.. لكن ساذجة.
ـ وايه اللي حصل.
ـ زي ماظهر حبي لها فجأة .. أختفى فجأة.

السبت , 06:00 ص
ـ فاضل ساعتين ويحققوا معنا، هتعملي أيه؟
ـ مش عارفة، أنا فعلا معملتش حاجة، وخايفة لو مقولتش اللي عايزينه، يبهدلوني.
ـ اسمعي، أنا هعمل معاهم (ديل).
ـ أزاي.
ـ هاعترف لهم باللي عايزينه .. بشرط يفرجوا عنك.
ـ أنت مجنون.

السبت , 08:00 ص
دخلت إلى حجرة التحقيقات برفقة العسكري، بدت نواجذ الضابط وهو ينظر إلى ذلك الشخص الأنيق الجالس بجوار الطبيب في الزاوية، مشيراً للعسكري بغلق الباب.
خرجت من مكتبه بعدما وقعت على الاعترافات المطلوبة نظير صفقتي معه، عائداً إلى زنزانتي، لمحت باب زنزانة (6) مفتوحاً، تهللت فرحاً لنيلها حريتها، نظرت داخل الزنزانة، رأيت عسكري يحمل سماعات وجهاز تسجيل، وهو يحمله ضغط على أحد الأزرار بأصبعه، انبعث من جهاز التسجيل، صوت صرخاتها.
ـ تسمرت مكاني.
دفعني العسكري إلى الأمام ضاحكاَ:
ـ هاهاهاهاهاهاها.

ـ النهاية ـ

رامي 2015

$
0
0

"ما خطرتش على بالك يوم تسأل عنى .. دى عينيا مجافيها النوم يا مسهرنى .. أمال غلاوة حبك فين .. فين الوداد والحنية"هكذا عاتب أحمد رامي شعراً أم كلثوم، عندما لم تسأل عنه وهو في منزله، كاتباً أخر أعمالهما معاً "يا مسهرني" .

تأنقت .. مثلما كان يفعل دوماً وهو في طريقه لحفلاتها الشهرية، ليستمع هو لأم كلثوم، وأستمع أنا لفرقة أم كلثوم الزائرة للكويت في ليلة من صيف يونيو، جلست في مجلسي بالمسرح مترحماً عليه، فهو ممن فارقونا في يونيو.

مضت لحظات الانتظار ثقيلة مملة بين همهمات جماهيرها الغفيرة في الماضي والحاضر، صفقت مع المصفقين بعدما اطلت فرقة أم كلثوم على خشبة المسرح بكامل هيئتها، وانسابت الألحان تهب الحياة لسحر الماضي في وجدان الحاضر.

انبرت أحدى عضوات الفرقة محتلة صدر المسرح، دنت من الميكرفون بعودها الباسق تكسوا بشرتها سمرة النيل، تدندن مع عزف مقدمة أغنيتها الموسيقية، فراشة تتمايل بفستانها الشيفون الأسود مطوقاً جيدها إطار فضي، زادها بهاءً على بهاء، تحملها سيقان في جورب أسود داعب خيالي.

"هجرتك يمكن أنسى هواك.. وأودع قلبك القاسي"هكذا استهلت بأشعار رامي، وجدتني استحضره لتتلبس روحه جسدي.. جلست مجلسه في حضرة أم كلثوم، متكئاً برأسي على كلوة يدي مثلما كان يتكأ، متوحداً مع الكلمة مثلما كان.

"غصبت روحي على الهجران.. وأنت هواك يجري ف دمي .. وفضلت أفكر في النسيان.. لما بقى النسيان همي"شرد ذهني ، ألهذا الحد كان يسرد رامي علاقته بأم كلثوم؟ ألهذا الحد اختصها بمنزلة الملهمة عن الزوجة؟ ألهذا الحد خشى أن يقتل الزواج حبه لها؟ ألهذا الحد آثر أن يعيش كل معاني الحب فيها، الـصـبـابـة.. الـشـغـف.. الـتـبـاريـح.. اللوعة.. الـسـهـد.. الوله.. الـجـوى؟كيف تأتى لها أن تنتشي مرتقية عرش مجدها على وجده؟ وكيف تأتى له أن يسمع نجواه لها منها؟

اختتمت مطربة فرقة أم كلثوم بـ "وكان هجري عشان أنساك.. وأودع قلبك القاسي.. لقيت روحي في عز جفاك.. بأفكر فيك وأنا ناسي".


صفقت لها بحرارة.. ودموع رامي تتساقط من عيني.

الفنان .. فيلم يرصد معاناة نجم السينما الصامتة جورج فالنتين

$
0
0
لم يستطع بصمته أن يهزم صوت تكنولوجيا
(الفنان) فيلم يرصد معاناة نجم السينما الصامتة جورج فالنتين



وليد الزهيري

توقع سيناريو فيلم الفنان (The Artist) الصامت ما يمكن أن يحلم به نجم السينما الصامتةفي ثلاثينيات القرن الماضي جورج فالنتين عندما داهمته تكنولوجيا السينما الناطقة، كان ذلك خلال مشهد «الحلم» والرئيسي في الفيلم واستعان به المخرج ميشيل هازانفيشوس بالمؤثرات الصوتية لأول مرة في فيلمه «الصامت» لإبراز معاناة البطل الداخلية وأهمية الصوت كتكنولوجيا دخلت على صناعة السينما حينما سمع أصوات ارتطام أدوات حلاقته، رنين الهاتف، نباح كلبه، ضحكات فتيات مارة، وعندما حاول أن يتكلم أو حتى يصرخ حبس صوته.

يعرض حالياً في دور العرض بالكويت الفيلم الفرنسي (الفنان) وهو أمر نادر الحدوث، ومن النادر أيضاً أن يفوز فيلماً فرنسياً بجائزة أوسكار كأفضل فيلم.. بل استطاع الفنان أن يفوز بخمس جوائز أوسكار لعام 2012 من بينهم ثلاث جوائز رئيسية كأفضل فيلم، أفضل مخرج لميشيل هازانفيشوس، وأفضل ممثل لجان دوجاردان، كما فاز لودوفيك بورس بأوسكار أفضل موسيقى تصويرية والأوسكار الخامسة كانت للملابس.

فيرصد فيلم (الفنان) خمس سنوات فقط من حياة فالنتين بداية من عام 1927 وهو في أوج مجده وصولاً إلى عام 1929 حينما ظهرت السينما الناطقة وتدهور الحال به خلال السنوات التالية نفسياً واقتصادياً واجتماعياً حتى عام 1932 ولم يكن وفياً له خلال تلك السنون سوى سائقه كليفتون (جيمس كرومويل) وحبيبته بيبي ميلر (بيرينيس بيجو) وكلبه (أغي).

واستطاع مخرج وكاتب سيناريو الفيلم ميشيل هازانفيشوس أن يقدم فيلماً صامتاً في القرن الواحد والعشرين دون أن يُشعر المشاهد بالملل والرتابة مستعيناً بشيئين فقط هما الموسيقى التصويرية والصمت. لافتاً بهذا الفيلم أنظار العالم إليه بعد فوزه بجوائز أفضل سيناريو وإخراج من أكاديمية السينما البريطانية «بافتا» وأفضل مخرج من معهد السينما الأسترالية، وسيزار، والأوسكار لهذا العام.

وأجاد هازانفيشوس في توظيف أدواته الإخراجية مقدماً لغة سينمائية راقية مدركاً متى يغلب عنصر على عنصر، وبرع كذلك في إدارة فريق تمثيله وتحريكهم داخل الكدر ومن المشاهد التي برزت فيه براعته في استخدام أداة حركة الممثلين عندما التقى فالنتين بمنتج أفلامه ال زمير (جون جودمان) عندما واجهه بحقيقة أن السينما الناطقة تحتاج لوجوه جديدة، وخرج فالنتين غاضباً من مكتبه هابطاً على السلم والتقى على درجاته بالممثلة التي اكتشفها بيبي ميلر وهي صاعدة على سلم المجد.

واستحق الممثل جان دوجاردان والممثل المفضل للمخرج أن ينال جائزة مهرجان كان الفرنسي وجائزة بافتا البريطانية والأوسكار كأفضل ممثل بأدائه لشخصية جورج فالنتين مجسداً مراحل تطور الشخصية من الغرور والثقة المفرطة بالذات إلى الإحباط واليأس والانهيار .. وأول ما سمعناه من صوته كان وهو يلهث ويلهث من أجل العودة للحياة.

وجسدت زوجة مخرج الفيلم الممثلة بيرينيس بيجو دور الحبيبة والعاشقة بيبي مولر في صمت لمن وهبها سر نجوميتها عندما قال لها في بداياتها التمثيلية «إذا أردت أن تكوني ممثلة جيدة يجب أن يكون لديك شيئاً مختلفاً»، وهو يرسم لها «حسنة» أعلى شفتيها. وبالرغم من فوزها بجائزة سيزار كأفضل ممثلة إلا أن فوزها بالأوسكار كان صعب المنال في حضور ميريل ستريب التي جسدت دور (مارجريت ثاتشر) في فيلم المرأة الحديدية.

وتمكن مؤلف موسيقى الفيلم لودوفيك بورس أن يقدم موسيقى على مدار أحداث الفيلم تحاكي زمن الأحداث، متجاوزاً بموسيقاه غياب المؤثرات الصوتية وفي أحد المشاهد الهامة عندما حطم فالنتين أثاث غرفته وأشرطة أفلامه الصامتة استطاعت موسيقى بورس أن تعبر عن مفردات الصورة حتى نباح كلب فالنتين وصوت النيران التي أشعلها ملتهمة تاريخه الفني.

جدير بالذكر أن الكلب (أغي) الذي رافق فالنتين طوال أحداث الفيلم سيتقاعد عن التمثيل بعد حياة حافلة بالعمل في استوديوهات هوليوود، بالرغم من فوزه بجائزة الطوق الذهبي الأولى وسعفة الكلاب على هامش مهرجان «كان» الأخير.
وختاما إن فيلم الفنان صائد الجوائز والحاصل على 21 جائزة تم عرضه بالأبيض والأسود وصامتاً على الشاشة الفضية لمحاكاة واقع الحياة الصامتة التي عاشها جورج فالنتين مكتفياً بلغة الجسد والتواصل الحسي مع مشاهديه، كما أن الفيلم لم يؤرخ لحياة فالنتين فحسب بل عزف بمهارة بالغة على لحظات إنسانية صعوداً وهبوطاً تظهر تجلياتها بوضوح في حياة كل فنان।



-----------------------------
رؤية لفيلم "الفنان"على صفحات جريدة الوسط الكويتية

جرافيتي

$
0
0
إلى كل جرافيتي

اعتاد الجلوس في العتمة، متكأ على جدارٍ بارد صيف شتاء، لا يشاركه في
عتمته هذا الصباح سوى شعاع ضوء نحيف يأتيه عن يمينه مخترقاً نافذته ساقطاً على الجدار الأيسر، متتبعاً نموه وهو قابع في مكانه لا يحرك ساكناً، رآه كشعاع ليزر يشق حجرته نصفين من شدة نحافته॥ شق للجنة والآخر للنار، يزداد حجم شعاع الضوء دفئاً وسمكاً وقت الظهيرة متوسطاً حجرته، حينها لا ترواح عيناه ذلك الضوء يميناً أو يساراً معتدلاً في جلسته استعدادا لبدأ العرض.

كان ذلك الشعاع بالنسبة له كشاشة سينمائية عملاقة يرى عليها كل ما يتمناه، يساعده في ذلك ذرات الأتربة المتطايرة والسابحة في شعاع الضوء، مشكلة له لوحات متحركة يتخيل فيها ما يشاء وأينما شاء، تارة يراها كموجات بحر لجي عباب يصارع أمواجه، أو خيالات أفرع أشجار متلاحمة كزهور نبات القرنبيط، أو ملامح شخص افتقده منذ زمن متجاذباً معه أطراف الحديث، أو نظرات حادة لأحد الذين تسلطوا عليه
يوماً ما॥ حينها ما عليه إلا أن يملأ رئتيه بالهواء ثم يخرج زفيراً قوياً يبعثر به تلك الذرات المتناثرة معيداً تشكيل مشهده من جديد.

شاهد اليوم على شاشته نفسه وهو جالساً في سنواته الثمانية وسط العابه يحاكيها وتحاكيه محاولاً بناء بيتاً من الميكانو، ارتعدت فرائسه حينما سمع صراخاً قادماً من بعيد:
ـ ضياااااااء.
انهارت لعبته من ارتباكه مجيباً:
ـ نعم يا ماما.
ـ مش قولت لك ممنوع الشخبطة على حيطان البيت؟
أجابها حانقاً:
ـ حاضر.

عبر أباه من أمام باب حجرته يحيط بكفيه رأسه مجففاً شعره بفوطة أنزل طرفها عن عينيه وهو ينظر نحوه مبتسماً مهوناً عليه صريخ أمه.

في مشهده التالي كان مدرس لغته العربية في مرحلته الإعدادية واقفاً على السبورة يشرح قاعدة المبنى للمجهول والمبنى للمعلوم النحوية واضعاً تشكيل كل كلمة بأصبع طباشير ملون، وعيناي ضياء لا تفارق يد مدرسه وكلما تأكل أصبع طباشير قذف بالبقية الباقية منه في أحد الأركان، وفور سماعه صوت جرس المدرسة أنتفض من مقعده منقضاً على البقايا الملونة، تركاً حقيبته خلف ظهره متخذاً طريق العودة من المدرسة وطباشيره لا يفارق سبابته وإبهامه، راسماً خط بطول كل سيارة يمر عليها في طريق بيته، متخيراً من طباشيره لوناً عكس لون السيارة.

لمح تفاصيل فتاة مثيرة في وضع خليع وهو يرسمها خلف باب حمام مدرسته الثانوية، وكلما مسحت إدارة المدرسة رسوماته من الحمامات أعاد رسمها بتفاصيل أكثر إثارة مما كانت عليه، تتبعت إدارة المدرسة صيته الذائع بين أقرانه والمعروف بلقب (ضياء بيكاسو)، نال جراء شهرته اسبوع رفد، في ثاني أيامه أحضر له أبيه حقيبة وضعها أمامه وأدار ظهره خارجاً، فتحها وجد بها (علبة بخاخ رش أسود اللون يشبه المستخدم في دهان السيارات، بعض الأغطية التي توضع فوق البخاخ بأحجام متباينة، أقلام خط شيني بأحجام وألوان مختلفة، قطعة من الأسفنج، وأشياء أخرى)، بادر أبيه بسؤال قبل أن ينعطف من باب حجرته:
ـ أيه ده يا هندسة؟
ـ أدوات جرافيتي.
تابع مستغرباً:
ـ يعني أيه جرافيتي؟
ـ دور وأنت تعرف.

تفوق في سنواته الأولى بكلية الفنون الجميلة، كأحد القلائل الموهوبون في التعبير بخطوط قليلة عن أشياء كثيرة। لم يثنيه هذا عن ممارسة هواياته ليلاً وخفية بعيداً عن الأعين بالرسم على الحوائط، لا تفارق أذنيه سماعتان يصبان في رأسه موسيقى (الهيب هوب) أثناء رسمه كل ما يجول بخاطره، رافضاً الانصياع لأي تحذير يتلقاه من أصحاب تلك الحوائط.

تجاوز في سنته الدراسية الأخيرة التعبير برسوماته عن همومه الخاصة إلى التعبير عن هموم وطنه، مستخدماً جدرانه أينما كانت ومستغنياً عن سماعه للهيب هوب، بترديده أغنية الشيخ إمام (أتجمعوا العشاق) كلما بدأ في عمل ما، وعند الانتهاء من أغنيته يعيد ترديدها ثانية وثالثة حتى ينتهي من رسم حلمه بعرض الوطن.

أعلنت الشمس عن نهاية العرض السينمائي بعودة شعاعها الأخير إلى ما بدا عليه أول الصباح نحيفاً وحاداً ومدبباً يشبه القلم الشيني الذي أحضره له أبيه يوماً ما، نهض من مكانه متعثراً في عتمته محاولاً الإمساك بخيط الضوء الأبيض ليرسم على حائطه الأسود بيديه حلم الحرية .. لكنه سمع صليل قيوده.

نملة سُليمان

$
0
0

(1)
صعد السلم متثاقلاً، فتح باب بيته، ترك حقيبة سفره، ارتمى في حضن أمه، جرت دموع اللقاء.

ـ حمد لله على السلامة يا ابني، الحمد لله  ربنا مد في عمري لحد ما شوفتك.

سقطت عيناه الباحثة عن أثر السنين على ملامحها:

ـ ما أنت زي الفل أهو.

ـ فضل وعدل، أوضتك زي ما هي بحطة أيدك والصباح رباح.

حمل حقيبته ودخل حجرته، تبعته بكلمه وهو يختفي داخلها:

ـ عروستك عندي.


كانت حجرته مثلما تركها منذ عامين، شرفته المطلة على مراهقة حب بنت الجيران، تتوسط  دواوين فاروق جويدة الشعرية مكتبته التي كونها من باعة الكتب المستعملة، معتبراً اصفرار ورائحة الورق عنصرين مكملين لمتعة القراءة، أسطوانات موسيقاه الكلاسيكية كما هي مبعثرة فوق مكتبه، وضع حقيبة سفره فوق سريره، حمل بعض ملابسه الجديدة، أصدرت ضلفة دولابه أزيزاً كالذي لم يسمعه منذ زمن وضع ملابسه على الرف .


استدار عائداً ليحضر المزيد، لمح صورة في عيد ميلاده لصقها يوماً ما على وجه الضلفة الداخلي، يقف فيها مقبلاً على مستقبله هو وزملاء الجامعة، كان بجواره في الصورة حب نشأ في قلبه منذ أول يوم بالجامعة، نظر إليها متحسراً، واستمر في إخراج ما في حقيبته ذهاباً وإياباً.. وكلما مر على صورتها تأمل ملامحها مخرجاً ما في جعبته من ذكريات.


كانت الأجمل على الإطلاق بين بنات "الدفعة"، لازمها دوماً ولو من بعيد حتى تكون في مرمى بصره، هجر مدرجه من أجل مجاورتها، أعترف لها بحبه .. اعترفت له بحبها حينما نبضت الأحرف على صفحات أجندة المحاضرات الشاهدة على اعترافهما الصامت، استمتعا بحياتهما الجامعية طولاً وعرضاً، قرءا جويدة معاً، استمعا لموسيقاهما معاً، خاضوا غمار رحلاتهما معاً، ذاكرا ونجحا معاً، كل شيء كان معاً، إلى أن جاء المحمل من الخليج بما لا قبل له به، والتقمها.. وسحقه.


لم ينتبه إليه كأنه نملة ساقها حظها العثر لأن تكون في طريقه كتلك التي كانت في طريق جيش سليمان والذي سمعها، لكن القادم بسطوة ماله قضى على من عشق وغزل شخصية معشوقته، راسماً مستقبلها ومستقبله.. سحقه من لم ينتبه أن في طريقه نملة ووطئها.


أغلق دولابه على ذكرياته، ركن حقيبة سفره خلف باب حجرته، واضعاً رأسه على وسادته..وغط في النوم.


(2)

حمل حقيبة المركونة خلف الباب، وضعها على سريره، فتح ضلفة دولابه مصدرة نفس الأزيز، حمل بعض ملابسه الجديدة التي لم يمنحه الوقت لأن يرتديها كلها خلال شهر مضى، بدأ في إعادتها ذهاباً وإياباً، مستذكراً ما حدث له في إجازته.


شاهد عروس رشحتها له أمه، رفضها لأن معايير أمه كانت غير معاييره لمن ستحمل اسمه، تكررت محاولات البحث عن بنت الحلال بالرغم من رفضه منطق التاجر القادر على شراء أي بضاعة وما عليه إلا أن "يلف ويشيل" .. هكذا رفض بعضهن..ورفضته بعضهن.


كانت محاولته الأخيرة قبيل نهاية إجازته من فتاة التقى اباها، رحب به ومنحه بعض الوقت للقاء ابنته، كانت  نموذجاً مثالياً لتلك التي يتمناها استمت بالكثير من صفات حبه القديم، جذبه منطقها وثراء شخصيتها..إلا أنه لمح في عينها نظرة اغتراب احتار في تفسيرها، وجه إليها سؤالاً مباشراً:

ـ في حد في حياتك؟

أجابت دون أن ترفع عينيها عن موضع قدمها:

ـ أيوة.

ـ  لسه موجود؟

ـ  بابا رفضه علشان مش جاهز مادياً.. وقالي أدي نفسك فرصة.


زاغت عيناه مستغرباًً تبادل الأدوار، اليوم هو في موضع جيش سليمان.. والآخر مكان النملة، حاولت الهرب بسؤاله:

ـ أجيب  لك شاي؟

ـ ياريت.


دار في ذهنه سؤالين لا ثالث لهما.. هل يحاول استمالتها ثأراً لكبرياءه الذي أهدر يوماً ما؟ أم يتحسس موضع قدمه .. ويستمع لصرخات نملة؟

ـ اتفضل، سكرك أيه؟

نهض من مقعده، ودعها بابتسامة حانية .. أغلق حقيبة سفره على محاولاته المترددة.


ارتمى في حضن أمه، جرت دموع الوداع.. حمل حقيبة سفره، أغلق باب بيته، نزل السلم متثاقلاً.

دعوة للاتفاق أو الاختلاف

$
0
0
إن الوضع الراهن في مصر بعد إنتهاء الجولة الأولى من إنتخابات الرئاسة يدعو إلى قدر من التأمل، وبإلقاء نظرة على المشهد من خارج الصندوق يتبين أن من يتصارع على السلطة في مصر المحروسة ثلاثة قوى رئيسية هي (الثوريون أنصار الدولة المدنية ـ المجلس العسكري والفلول ـ التيار الإسلامي)، وحتى نستطيع تقييم المشهد بوضوح نستعرض موقف كل واحدة من القوى الثلاث.

أولاً : الثورين أنصار الدولة المدنية، على مدار سنة وثلاثة شهور منذ 11 فبراير 2011 بعد تنحي المخلوع، تلقى هذا التيار العديد من الصدمات لتفريقه وتفتيته على يد القوى الثانية المتصارعة على السلطة (المجلس العسكري والفلول) بداية من أحداث (البالون، ماسبيرو، محمد محمود، ومجلس الوزراء) ترك الطرف الثالث (التيار الإسلامي) رفاقه في الثورة حتى ينهاروا ولا يصبح هناك على الساحة غيره، وتم بالفعل تقليم أظافر الثوريون في الانتخابات الرئاسية مع العلم أن هذا التيار ساهم في تقليل فرصة بتفتيت أصواته على عدة مرشحين للرئاسة.

ثانياً: المجلس العسكري والفلول، استطاع أن يستميل (التيار الإسلامي) اللاهث خلف السلطة وأن يحيده خارج دائرة الصراع حتى يتمكن من سحق القوى الثورية منفردة، وبلغ الأمر ذروته عقب أحداث مجلس الوزراء بداية من اتهامات لعناصر 6 إبريل وأنصار الدولة المدنية واعتقال الكثير من الناشطين السياسيين واغتيال بعضهم، وآثر (الثوريون أنصار الدولة المدنية) التوقف عن التظاهر، عقب منعهم من الوصول لمجلس الشعب من قبل أنصار التيار الإسلامي خوفاً من حدوث حرب أهلية، واستطاع بذلك (المجلس العسكري والفلول) السيطرة على القوى الثورية  بعد اعتماد نتيجة الجولة الأولى من انتخابات الرئاسة، ويستعد الآن (المجلس العسكري والفلول) للجولة الثانية من الصراع بالقضاء على (التيار الإسلامي) بوصول أحمد شفيق لسدة الحكم.

ثالثاً: التيار الإسلامي، يشوب موقفه قدر من الغموض بداية من التحاق الإخوان المسلمون بالثورة متأخراً ورفض السلفيين الثورة برمتها واعتبارها خروج على الحاكم، إلا أن من المشهود به هو دور الإخوان المسلمون في موقعة الجمل وكان من الممكن أن تنهار الثورة لولا بأسهم وجلدهم، وبعد انتهاء مرحلة التقاء المصالح مع (الثوريين أنصار الدولة المدنية) وسقوط الهدف المشترك المتمثل في شخص الرئيس المخلوع، هرول أصحاب التيار الإسلامي لجني الغنائم وتركوا الخطوط الخلفية مكشوفة لشركائهم في الثورة (أنصار الدولة المدنية) وكأنهم لم يقرؤوا التاريخ جيداً، وتتجسد موقعة أحد من جديد، ويسقطون في حبائل (المجلس العسكري والفلول) بتحييدهم وترك (الثوريين أنصار الدولة المدنية) في مواجهة (المجلس العسكري والفلول) منفردين، من أجل بعض الغنائم المتمثلة في استحواذهم على مقاعد مجلسي الشعب والشورى واللجنة التأسيسية للدستور. وانتهى شهر العسل بين (التيار الإسلامي) وبين (المجلس العسكري والفلول) بعد القضاء على (الثوريين وأنصار الدولة المدنية) بنهاية الجولة الانتخابية الرئاسية الأولى.

والآن يحاول الطرفان (ثانيا المجلس العسكري والفلول) و(ثالثا التيار الإسلامي ) استمالة (أولاً الثوريين أنصار الدولة المدنية) قبل بداية الجولة الثانية من انتخابات الرئاسة بعدما أصبح (أولاً) خارج السباق للاستحواذ على أصواتهم الإنتخابية.

وبما أن الثوريون كانوا حالمون وسذج إلى حد بعيد، يجب عليهم الآن التعامل مع (فن الممكن) والنظر للمشهد بقدر أعمق، فأن (الثوريين أنصار الدولة المدنية) يخافون من (التيار الإسلامي) مثلما يخاف منه (المجلس العسكري والفلول)، كذلك ايضاً (الثوريون أنصار الدولة المدنية) يخافون من (المجلس العسكري والفلول) مثلما يخاف (التيار الإسلامي).

فإذاً تحالف (الثوريون وأنصار الدولة المدنية) وأعطوا أصواتهم لأحمد شفيق خوفاً على الدولة المدنية هذا يعني أن (المجلس العسكري والفلول) سينعمون بالهدوء والاستقرار ويعود الأمر كما كان قبل 25 يناير، أما لو تحالف (الثوريون وأنصار الدولة المدنية) مع (التيار الإسلامي) وأعطوا صوتهم لمحمد مرسي فإن هذا الأمر لا يعني أبدا نهاية المطاف.

لأن (المجلس العسكري والفلول) لن يستسلموا بسهولة لأنهم خائفون على الدولة المدنية بعدما وضعهم (الثوريون) في مواجهة مباشرة مع (التيار الإسلامي) ولن يمنحوهم الوقت الكافي لتحقيق مشروعهم الديني، وهنا ستبدأ مرحلة تكسير العظام، وهذا لا يعني أبدا تحقيق الاستقرار بعد انتخابات الرئاسة وسيحدث إعادة لتشكيل المشهد من جديد عقب الانتهاء من الدستور بانتخابات أو بدون انتخابات.
لذا فإن تحالف (الثوريين) مع (التيار الإسلامي) ضد (المجلس العسكري والفلول) والتصويت لمحمد مرسي في الجولة الثانية للانتخابات الرئاسية سيقوض الاستقرار في المرحلة المقبلة ويهدم المعبد على رأس (التيار الإسلامي) و(المجلس العسكري والفلول)، وبالتالي يتمكن (الثوريين) من العودة كشريك فاعل بعد إعادة ترتيب الأوراق .
وبناء على ما سبق سأصوت لمحمد مرسي .. واشرب يا جيش.

ع الغربة

$
0
0
ـ الله أكبر.
قرأ الفاتحة، باكياً.

ـ الله أكبر,

ثم نصف التشهد.

ـ الله أكبر.


دعا لأخيه الجاثم أمامه، غلب نحيب المصلين على دعاءهم ذوي الأعمار المتقاربة في سن البذل والعطاء، معظمهم من بلدة واحدة أو رفاق العمل في الغربة، كان يبكي أخيه في نعشه.. وهم يبكون أنفسهم في نعوشهم.


جلس على مقعده عائداً بالطائرة إلى بلدته في جوف الصعيد، مستذكراً منذ عدة سنوات حينما علمه أخيه كيف يربط حزام مقعده قادماً للعمل لأول مرة في الخليج وشاربه مازال أخضراً، اليوم يجلس وحيداً وأخيه أسفل منه بقاع الطائرة يرقد في صندوقه حاملاً تذكرة ذهاب بلا عودة.


هكذا علمه أخيه الأكبر ربط الحزام على كل شيء مستعداً للانطلاق في آفاق غربته متسلحاً بتعليم مهني متوسط، منحه كل خبراته الحياتية والحقه بأحد المواقع الإنشائية مشرفاً على عمال يتاجرون بصحتهم من أجل قوت يومهم.


تذكر سؤاله لأخيه الكبير بعد عامين:

ـ عنسافر ميته مصر؟

ـ أمك أتوحشتك إياك؟

ـ بدي أشوفها.

ـ عندك صورتها، أمسكها في يدك وأنت بتكلمها ع التلفيون، مش ع تنزل مصر إلا يوم فرحك.


إعتاد حياة الغربة مثل أخيه الذي أفنى سنين عمره فيها، وكلما أخذه الحنين خاطبه راجياً:

ـ كفايانا غربة ياخوي.


أجابه بنظرات يائسة:

ـ أنت مشوفتش حاجة، مصر بتكره ولادها، بوك حارب في الاستنزاف وخرج مصاب، وأخرتها جاعد في البيت مع الحريم.


فك حزام مقعده وحمل جثمان أخيه عائداً به، وجد في استقباله أعين جامدة، دفنوا جثمان أخيه في بطن الجبل ورجعوا من حيث جاءوا معتادين غيابه.. التقت عينيه بأعين زوجة أخيه لأول مرة وهي جالسة بجوار زوجته تواسيها، قدم إليها حقيبة أخيه، أخذتها متوجه لحجرة نومها وفتحتها، أمسكت بجلباب زوجها وضعته على وجهها، اشتمت رائحة عرقه التي مازالت عالقة بها.


توسط ولدي أخيه الأكبر في سرادق العزاء، متتبعاً مكالمات هاتفية بين الحين والآخر تأتيهما للعزاء من رفاقهما بالجامعة، معقبين عليها بكلمات تقليدية جوفاء، شاهد من بعيد ابنت اخيه ذات السنوات الخمس، تلهو مع ولده وبقية ابناء الجيران بالقرب من سرادق أبيها، توجه إليها حملها واحتضنها حانياً، نظرت إليه ببراءة قائلة:

ـ وين بوي يا عم؟


ختم ضابط الجوازات جواز سفره وهو في طريقه مغادراً متجهاً نحو طائرته شارد الذهن مغيباً مهموماً بموقف زوجة أخيه بعد الأربعين:

ـ كيف يابنت الناس تاخدي عيالك وترحلي؟

ـ خالتي وخالتك، واتفرجوا الخالات، وكفاينا لحد أكدة.

ـ شوفتي منا أيه زعلك؟

ـ شوفت من أخوكم البخل والموت ع الجرش، وكل سنة ولا سنتين يورينا وشه.

ـ وولاد أخونا، الناس ع تاكل وشنا؟

ـ ولاد أخوكم كبروا، وعندهم اللي يكفيهم.


قرأت المضيفة رقم مقعده بالتذكرة، مشيرة إليه نحو المؤخرة، جلس متمتاً وهو يربط حزامه:

ـ مارتي أصيلة .. متعملش أكدة.

ياباني أصلي

$
0
0
أقامت السفارة اليابانية في الكويت، بالتعاون مع المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، حفلاً فلكورياً قدمته فرقة «كيكونوكاي» اليابانية على مسرح متحف الكويت الوطني، التي أسسها ميشيو هاتا عام 1972.


انقسم الحفل إلى عرضين، الأول ضمّ لوحتين راقصتين هما أغنية تدعى «كوتوبوكي كيكو سانبا - سو» والمستوحاة من المسرحية الشهيرة «أوكينا» التي تدور قصتها حول طمأنة المزارعين على محصولهم وصيدهم اضافة الى السلام العالي وهي من الأغاني الشهيرة في الاحتفالات السنوية اليابانية، ثم «رقصة الأسد» والمعروفة باسم «تسوري أوننا» وهي احدى الرقصات التقليدية اليابانية المستوحاة من أسطورة قديمة.

كما اشتمل العرض على مسرحية كوميدية يدور مضمونها حول تسلط الزوجة على زوجها اللعوب يتلخص المشهد في محاولة الزوج الخروج دون علم زوجته ويترك خادمه  يحل محله وتكتشف الزوجة مكيدة زوجها ، ويحاكي هذا العرض الياباني المشهد الشهير لإسماعيل ياسين ورياض الأصابجي (الشويش عطية) بفيلم إسماعيل ياسين في الطيران عندما نام إسماعيل ياسين مكان الزوج حتى يختلي بزوجته بعشيقته ـ مما يؤكد على أن ثقافة الرجل واحدة في مصر أو حتى في اليابان.

أما العرض الثاني فتضمن 11 لوحة وهي: «رسالة من كيوتو» وهي رقصة تعبر عن مدينة كيوتو حيث تمتزج الثقافة التقليدية بالعصرية، و«أشجار الكرز والقمر» وصورت هذه الرقصة مدى استمتاع الناس للاحتفال بتفتح شجرة الكرز والشرب تحتها، و«رقصة الربيع»، و«رقصة من الكلمات»، و«تسوجارو أووارا بوشي»، و«جوايواي» وهي رقصة تعبر عن مدى الفرح بالصيد البحري الوفير، «تسوجارو جونجارا بوشي».

و«ياسابورو بوشي» وهي رقصة تقدم لوصف مدى قسوة معاملة أم الزوج لزوجة ابنها ـ الحموات الفاتنات ـ ورقصة الشمسية المعروفة باسم «كاسا أودوري» وتعتبر من الرقصات التي تصلى لأجل المطر، لكنها تطورت ليصبح استخدامها كنوع من تمارين اللياقة البدنية، و«ثنائي روكوتشوا» وقدمها رجل وامرأة بحماس كبير للتعبير عن مشاعرهما على أنغام الموسيقى، وختاماً رقصة «أوشيبوكا هايا بوشي & أوا أودري» وهي مزيج لثقافتين مقاطعتين في اليابان.

جدير بالذكر أن الفرقة حازت فرقة كيكونوكاي اليابانية على جائزة الفن الرائع في المهرجان الثقافي الياباني عام 1976 وقدمت عروضا محلية وعالمية في كل من أوربا وأمريكا والبرازيل والمكسيك والهند وسنغافورة وتايوان ودول جنوب شرق أسيا واستراليا وتركيا وعمان والمغرب وتونس والجزائر , لذا حصلت الفرقة على كتاب شكر وتقدير من وزير الخارجية الياباني في العام 1986 . كما حازت الفرقة على عدة جوائز في مسابقة الرقص الوطنية التي ترعاها طوكيو منذ عام 1997 وحتى عام 2005.

وقد الهب العرض حماس المشاهدين مما حذى بالسفير الياباني أن يشارك بالرقص مع فرقة بلاده وهذا لم ينتقص من قدره في أعين المشاهدين ولا من قدر اليابان كأمة .. ترى هل من الممكن أن نرى يوماً سفيراً مصرياً يشارك في رقصة "البت بيضا"؟

خطوت خارجاً بعد نهاية العرض وشاهدت يابانياً منفعلاً بالتصفيق من شدة حماسة، التقت عيني بعيناه ، سلمت عليه قائلاً له : هنيئاً لك بوطنك.

مصادر: جريدة الراي



صاخب بشدة.. وقريب بشكل مدهش

$
0
0
رحلة استكشافية للعثور على نيويورك
فيلم يتناول بعمق أحداث 11 سبتمبر وفجيعة الفقد

فيلم صاخب بشدة.. وقريب بشكل مدهش (1-2) مجلة أسرار السعودية
وليد الزهيري
"إذا كانت الشمس ستنفجر لن نعرف بهذا إلا بعد 8 دقائق، لأنها المدة التي يستغرقها الضوء ليسافر إلينا، مر عام على وفاة والدي وأمكنني أن أشعر بدقائقي الثمانية معه تنتهي"بهذه الجملة التي جاءت على لسان أوسكار شيل (توماس هورن) تبدأ الأحداث الفعلية لفيلم (صاخب بشدة .. وقريب بشكل مدهشExtremely Loud &Incredibly Close) بعدما استوعب نفسياً صدمة فقدانه لأبيه متجاوزاً مسرحية هزلية لم تقنعه حينما شاهد مراسم وفاة والده ودفن تابوتاً خالياً لا يحمل جثمانه.

ينطلق الطفل الذكي أوسكار شيل ذو التسع سنوات موجهاً أوجعه، حينما وجد مفتاح تركه له أبيه داخل مظروف كتب عليه اسم (بلاك)، وقرر البحث عن القفل الذي يفتحه هذا المفتاح ربما وجد شيئاً ما أراد والده أن يقوله له، قام بحصر سكان نيويورك المنتهية أسمائهم بلاك معتقداً أنه ربما يعرف أحدهم والده ويجد لديه القفل الذي يبحث عنه، مستعرضاً خلال رحلته أوجاع ومعاناة قاطني نيويورك بل ونتعرف أكثر على آلام المدينة وحالة الفقد التي تعاني منها المدينة بعد فاجعة 11 سبتمبر.

لم ييأس أوسكار إقتداء بكلمة قالها له أبيه "لا تتوقف عن البحث"، وساعده في رحلة بحثه جار جدته الفاقد للنطق (ماكس فون سيدو) بعد حادث فقدانه لأبيه وأمه إثر قنبلة سقطت على أسرته في ألمانيا إبان الحرب العالمية الثانية والذي يكتشف حقيقة شخصيته فيما بعد، كان يعاقب أوسكار نفسه بلدغ جسده لإحساسه بذنب لا يستطيع التخلص منه، يتم ذلك كله في إطار علاقة متوترة بين البطل الصغير وأمه (ساندرا بولوك) متمنياً لو أنها هي التي كانت داخل مركز التجارة العالمي بدلاً من أبيه، وزاد بحثه الطويل والمضني من شوقه وألمه على فراق أبيه، خرج من تجربته البحثية بأنه عثر على ذاته مشاهداً الجانب الإنساني من وجه نيويورك.

قدم إريك روث سيناريو هذا الفيلم المأخوذ عن نص أدبي لجوناثان سافران فوير وتميزت الرواية بالنضج لتناولها حدث أخذ قدر كافي من الوقت حتى تكشفت حيثياته وملابساته وانعكاسات نتائجه على الفرد والمجتمع، هذا على عكس تجارب مراهقة تقدم فور وقوع حدث جلل سعياً وراء جني الأرباح التجارية لاستغلال الزخم الإعلامي المصاحب لكارثة بحجم انهياري برجي مركز التجارة العالمي في 11 سبتمبر، تجاوز الفيلم العبارات الضخمة والأكلاشيهات التقليدية المستخدمة عادة في أي عمل يتناول حدث إرهابياً، وبدا السيناريو ثرياً وممسكاً بعمق الحدث الإنساني عبر استعراضه للمدينة من خلال رئات سكانها.

فيلم صاخب بشدة.. وقريب بشكل مدهش (2-2) مجلة أسرار السعودية
ويعد هذا الفيلم نتاج العلاقة الوطيدة بين السينما والأدب التي نشأت منذ سنوات طويلة وقدمت العديد من الأعمال الجيدة في تاريخ السينما المأخوذة عن نصوص أدبية. وتتسم العلاقة بين الأدب والسينما بالعلاقة الطردية فالأدب يقدم عملاً روائياً مكتمل الأركان من حيث العمق والحبكة الدرامية مما يسهم في بناء سيناريو جيد الصنع. وتتميز هذه النوعية من الأفلام بأنها تعيش طويلاً في وجدان مشاهديها. وبالتالي أضافت السينما للعمل الأدبي انتشارا واسعاً ويعد الاختلاف بين رؤية السيناريست والأديب صحياً إذ يترك هذا الأمر مساحة للقارئ أن يجد في النص الأدبي جانباً إبداعياً آخراً لم يراه على الشاشة الفضية.

اختار مهرجان "بالم سبرنجز"السينمائى، السنوي فى ولاية كاليفورنيا الأمريكية المخرج ستيفين دالدرى كأحسن مخرج لعام 2011. عن فيلمه 'صاخب بشدة.. وقريب بشكل مدهش'، ورشح دالدرى البريطاني الجنسية ثلاث مرات لجائزة أوسكار أفضل مخرج إلا إنه لم ينالها بعد بالرغم من تقديمه عدة أفلام هامة بداية من 'بيلي إيليوت'مروراً بفيلم 'الساعات'وتألقت فيه الممثلة نيكول كيدمان بأدائها لشخصية الأديبة الإنجليزية فيرجينيا وولف وفازت عنه بجائزة الأوسكار، وقدم بعد ذالك فيلم "القارئ"الذي تألقت فيه أيضاً الممثلة كيت وينسلت.

شارك في هذا الفيلم ممثلين من طراز رفيع بداية من المتألق توم هانكس في دور الأب (توماس شيل) وفي دور الأم ساندرا بولوك قدمت أداء جيداً في الثلث الأخير من الفيلم، وحضورهم قدم زخماً فنياً وعامل مساعد على تألق توماس هورن في دور الابن (أوسكار شيل) مما ساهم في منه جائزة النقاد كأفضل ممثل شاب عن دوره في الفيلم، كما أداء ماكس فون سيدو لدور الجار المضرب عن الكلام رشحه لجائزة أوسكار أفضل ممثل مساعد.

اسهمت بقية العناصر الفنية سواء الموسيقى التصويرية لأليكساندر ديسبلات الذي رشح من قبل لأربع جوائز أوسكار والذي قدم موسيقى تواكب إيقاع الفيلم السريع والراكض للبحث عن المجهول، كذلك كان التصوير السينمائي لكريس منجيز الحائز على إوسكارين سابقين، وقد نال ترشيح آخر أيضاً عن فيلم (القارئ) مع نفس المخرج.

استحق فيلم (صاخب بشدة .. وقريب بشكل مدهش) 6.6 / 10 من الدرجات كما أنه رشح لجائزة أوسكار أفضل فيلم لهذا العام نتيجة لتوافر عوامل عدة للنجاح سواء قصة جيدة وسيناريو متقن وإخراجاً وتمثيلاً، بالإضافة إلى الموضوع ذاته لتناوله معاناة الفقد ومحاولة إيجاد سبل للتعايش بعد الشعور بالوحدة والتكيف مع الواقع من خلال البحث عن الذات في نفوس من حولنا وأروقة مدننا.

أوركسترا كراكوف .. موسيقى خالصة لم تمتد لها يد التكنولوجيا

$
0
0
أوركسترا كراكوف أوبرا البولندية
قدمت أوركسترا كراكوف أوبرا البولندية في أمسيتها الأولى مساء الاثنين 19 نوفمبر الجاري باقة من مؤلفات موتسارت الموسيقية برعاية المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، وذلك من خلال 19 معزوفة موسيقية بقيادة المايسترو توماس توكارتك خريج أكاديمية كراكوف الموسيقية على مسرح متحف الكويت الوطني.

تألق المايسرو توماس توكارتك بقيادته للأوركسترا بالعزف صعوداً وهبوطاً وتنوع التوزيعات للجمل الموسيقية الراقية وكان حضور آلة الكمان بارزاً خلال العزف وبالرغم من قلة آلات النفخ إلا أن أداءها كان انسيابياً في خلفية العزف.


كاتارجينا أولش (ألتو) وستانيسواف كوفلوك (باريتون)

تناوب بالغناء الأوبرالي المغنية الأولى بالفرقة أجنيشكا جونستكا (ميتسو سبرانو)، كاتارجينا أولش (ألتو) المتألقة بشكل ملفت أثناء غنائها ونالت قدراً كبيراً من استحسان الحاضرين، ستانيسواف كوفلوك (باريتون) فتى الفرقة الأول، وتوماس كوك (تينور) الذي كان حضوره باهتاً إلى حد ما.
تفاعلت الجماهير كثيراً مع السيمفونية الأخيرة No.40 g-moll KV 550والتي اقتبستها فيروز وغنت على لحنها أغنية ( يا أنا يا أنا) .

وفي اليوم التالي بالأمسية الثانية قدمت الأوركسترا مجموعة من المؤلفات ذات الطابع الرومانسي وقدمت للموسيقار الإيطالي جواكينو روسينيمقاطع من أوبرا "حلاق إشبيلية"التي ألفها 1816، وكتبها الفرنسي بومارشيه.
وتدور أحداث "حلاق إشبيلية"حول قصة حب بين الشاب الكونت ألمافيفا والشابة روزينا. ويرغبان في الزواج، إلا أن بارتولو الوصي على روزينا طامع بأموالها ويريد الزواج منها. وهنا يظهر الحلاق فيغارو، وهو رجل سليط اللسان يتمكن من إفشال مخطط بارتولو. وينتهي العمل نهاية سعيدة بانتصار الحب وتكلله بزواجهما.
كذلك قدمت للموسيقار الفرنسي جورج بيزيه "كارمن"المستوحاة من رواية بالعنوان نفسه لمواطنه ميرمي، وتدور الأحداث حول الفتاة الغجرية الجميلة "كارمن"التي يقع في غرامها الضابط خوزيه، لكنها سرعان ما تشعر بالملل من هذا الحب، خصوصاً بعد ظهور مصارع الثيران إسكاميلو، فتصدم حبيبها خوزيه معلنة أنها لم تعد تحبه، مما يدفعه للانتقام منها بقتلها.

كما قدمت الأوركسترا أحد أبرز مؤلفي الأوبرا الإيطاليين في القرن التاسع عشر جوزيبي فيردي، بعزفها مقطع من أوبرا "لاترافيا"و"نابكو"و"ريغوليتو"، ومن بعدها عزفت للموسيقار الإيطالي غايتانو دونيزيتي ومواطنه فينشينسو بيليني.

يذكر أن فرقة اوركسترا كراكوف تعد من أعرق الفرق البولندية التي تقدم تراث المسرح الأوبرالي في منطقة كراكوف لأكثر من مائتي عام، واستطاعت المحافظة عليه لعقود طويلة.

وختاماً لم ألحظ أي من المطربين يستخدم "مايكرفون"أثناء غناءه، ولا حتى أمام الآلات الموسيقية . وبالرغم من ذلك كان صوتهم يصدح بمنتهى القوة والوضوح . نعم .. كانتا أمسيتان موسيقيتان خالصتان .. لم تمتد لهما يد التكنولوجيا.

حجارة قلم

$
0
0
(1)


شرد ذهنه قليلاً موجهاً ناظريه نحو بنايات (المنيل) الشاهقة الجاثمة على ضفة النيل، فرك (الريس رزق) لحيته البيضاء المدببة بكفه ملاحقاً شمس الأصيل وهي تتوارى خلف الأعمدة الخرسانية، أعاده من شروده اهتزاز قاربه الساكن في عرض النيل والصوت المنبعث من راديو صغير بجواره لا يفارقه:

ـ نستمع الآن لآيات من الذكر الحكيم، يتلوها علينا القارئ الشيخ عبدالباسط عبدالصمد.


قبض بيديه المجعدتين على المجدافين حركهما قليلاً جاذباً قاربه للخلف، وابنه الأكبر (يسري) الواقف على حافته بجسده النحيل متجاوزاً العشرين من عمره بقليل، منحنياً للإمام يسحب الشباك من بين قدميه ويلقيها بروية في قاع النيل، يمده بالشباك المفرودة الابن الأصغر (ماهر) المطل على مشارف المراهقة والواقف بقاع المركب.


لمح (ماهر) بنظرة حادة نباتات شاردة على شاطئ النيل، ملئت شفتاه ابتسامة عريضة، جذب (يسري) الشباك من بين قدميه، مخاطباً أخيه:

ـ هِم بالغزل.


عاد لفرد شباك الصيد في همة:

ـ أهو.


أتم ولديه عملهما ، ورفع الاب يديه للسماء:

ـ يا رب أرزقنا برزق عيالنا .. وحنن قلب السمك علينا.


امسك بمجدافيه في طريق العودة،على أن يعودوا لجمع شباكهم فجراً، منصتاً لابتهالات النقشبندي:

ـ مولاي إني ببابك .. قد بسطت يدي.. من لي الوذ به الاك يا سندي؟


تودد (ماهر) لأبيه مشيراً نحو الشاطئ:

ـ معلش يابا أقطع بوصة من جنب العوامة اللي هناك.


غير اتجاه القارب:

ـ ماشي يا سي (ماهر)، أما نشوف أخرتها معاك.


(2)


وثب وثبة فهد عند اقترابهم من الشاطئ، جذب أحد أعواد الغاب الممشوقة، جز (قصبة) منها ودسها في قميصه، ملئت البهجة صدره عائداً بصيده الثمين. صمت (الراديو) فجأة، حاول ابيهم إعادة تشغيله إلا أنه لم ينطق، دسه في سيالة جلبابه عندما سمع صوت (سارينة) زورق شرطة المسطحات المائية متجهاً نحوهم، يشق صفحة النيل، أسرع (يسري) بالجلوس جانب ابيه، أمسك كل منهما بمجداف محاولين جذب قاربهم بعيداً، إلا أن توترهما لم يمكنهما من الذهاب بعيداً، رمقهم الشرطي الواقف في مقدمة الزورق بنظرة وصوت حاد:

ـ رخصكم.


نهض أبيهم متوجهاً نحو مقدمة القارب، مد يمينه داخل جلبابه مخرجاً من الصديري محفظته، وقدم رخصته بابتسامته متملقة تملئ وجهه:

ـ إحنا في السليم يا بيه.


تفحص وجوه من على متن الزورق، رفع صوته ضاحكاً:

ـ مرحب شاويش عبدالقادر.

ـ إيه اللي وقفك هنا (يا رزق) مش عارف دي عوامة مين؟

ـ معلش بقى الواد (ماهر) الله يجازيه بيحب المزيكا زي ما أنت عارف.


نظر في جوف محفظته، مد يده فيها، وأخرجها مضمومة، وضعها في يد الشرطي الممسك بالرخصه، مخاطباً الشاويش عبدالقادر:

ـ يومك نادي يا شويشنا:

ـ ماشي يا (ريس رزق)، رجع له الرخصة، مش عايز اشوفك هنا تاني.


عاد الزورق من حيث آتى قبل أن يسمع جوابه مخلفاً أمواجاً غير عابئة بقارب (الريس رزق) الجالس في المقدمة رامقاً (ماهر) المتكور عند نهايته:
ـ أدي اللي بناخده منك، خلي المزيكا تنفعنا.


قاطعه (يسري) وهو يجدف عائداً:

ـ حصل خير يابا، ما أنت عارف عبدالقادر، مبيعتقناش في الراحة والجاية.


(3)

رسوا بقاربهم بجوار قارب العائلة ذو الأربعة أمتار طولاً ومترين عرضاً حيث يعيشون وينامون، تجلس الأم في قاعه بوزنها الزائد وشعرها الأشيب المتواري أسفل (العصبة)، أمامها علبة من الصفيح مغلقة من ثلاث جوانب حاجبةً الهواء عن (باجور) الجاز المستقر بداخلها تطهو فوقه حلة (أرز) تتصاعد أبخرته الشهية، وبجوارها زوجة (يسري) التي لم تتجاوز العشرين بعد، تنظف أعواد الجرجير.


تمرجح القارب أثناء جلوس (الريس رزق) و(يسري) في المقدمة، وسير (ماهر) بطول القارب للجلوس خلف أمه، رامقاً زوجة أخيه الجالسة بالقاع في طريقه، قبضت على ياقة جلبابها وضمتها حول عنقها حتى تجاوزها. كشفت أم يسري غطاء الحلة متلفتة حولها، وأمسكت بطبق وملعقة وبدأت في الغرف:

ـ مالك يا أبويسري .


نظر خلفها، قائلاَ:

ـ الشويش عبدالقادر.


مدت يدها في جوف القارب وأخرجت سمكة مشوية، وضعتها فوق طبق الأرز الممتلئ، أخذته زوجة ابنها، ونفضت عودين من الجرجير، وضعتهما بجوار السمكة:

ـ خد يابا.

لمحت الأم بطرف عينها (رزق) غير المقبل على طعامه وهي مستمرة في غرف بقية الأطباق:

ـ متشغلش بالك يا خويا، ربنا يعوض عليك.


(4)


اسدل الليل ستاره على صفحة النيل ، يضيئها بعض الأضواء المتكسرة على أمواجه المتهدلة ويزعجها ضجيج القوارب العملاقة الذاهبة والعائدة، أخذ (الريس رزق) رشفة من كوب الشاي:
ـ أيه الهيصة دي، البحر زحمة النهاردة ليه؟


علقت أعين (يسري) بظهر قارب ذو طابقين، متابعاً فتى وفتاة متقاربين يمسك كل منهما بيد الآخر، أجاب أبيه دون أن يدير عينيه عنهما:

ـ النهاردة راس السنة يابا.


استمر في رشف الشاي، وبقية الأكواب في ايدي أسرته مرفوعة على الأفواه والأعين عالقة مع سريان القارب ذو الطابقين، أخرج (الريس رزق) من جيبه (الراديو) خبط على ظهره ولم ينطق، أخرج بطاريتيه وضغط على منتصف الأولى بأسنانه دافعاً الكربون نحو الأطراف، وكذلك بالثانية، ثم أعادهما، انفرجت اساريره عندما سمع صوت الحياة يدب في الراديو، بحث بين موجاته الإذاعية موجهاً مؤشره يميناً ويساراً، مثلما يوجه دفة قاربه حتى استقر على إحداها، ورفع صوت الراديو محاولاً جذب انتباههم:

ـ أعزائي المستمعين، كل سنة وأنتم طيبين، نرحب بكم في أمسية خاصة بمناسبة رأس السنة، نستمع  اليوم إليكم أكثر مما تستمعون إلينا، وسؤالنا  لكل المتصلين هو:

ـ أيه الحلم اللي تتمنى تحققه السنة الجاية؟:

ـ والآن مع عبدالحليم حافظ في أغنية (بحلم بيك) في انتظار اتصالاتكم.


برقت أعين (الريس رزق) لامعة:

ـ ايه رأيكم يا ولاد كل واحد يقول حلم يتمنى تحقيقه السنة الجاية؟


أصابت أعينهم نفس اللمعة، نظروا لأنفسهم مجيبين بصوت واحد:

ـ ماشي.

ـ طيب، ولعوا على شوية شاي تانين علشان القعدة تحلو، نبدأ بمين؟


انتفض (ماهر) من مكانه واقفاً:

ـ أني يابا.


هز رأسه مبتسماً:

ـ ماشي


أخرج (ماهر) قصبة الغاب من داخل قميصه، جالساً بجوار أمه، ومد يده بها نحو النار المنبعثة من الباجور، وهو يلفها دائرياً وللإمام والخلف، محرقاً الزوائد التي حولها:

ـ عارفة يا أمه، كان نفسي أدخل المدرسة، واتعلم المزيكا.


قاطعه (الريس رزق) ساخراً:

ـ جتك نيلة في خيبتك، عايز تسيب (كار) أبوك وجدود جدودك، وتلف ورا الغوازي بزمارة:


سخروا جميعاً، بضحكات مكتومة:

ـ قولي أنت يا (أم يسري).


لم يرفع (ماهر) عينيه عن (قصبته) بعدما أتم (تجليسها) على النار، وأمسك بسكين، محاولاً فتح ثقوب بطول القصبة، رفعت أمه (براد) الشاي عن النار، وصبت الماء في الأكواب واستدارت خلفها مخرجة علبة السكر من جوف القارب، وقامت بتلقيم الأكواب بملاعق السكر:

ـ أني نفسي في بوتوجاز.


ابتسمت خجلاً، وهي تقلب السكر في الأكواب:

ـ نفسي أطبخ وأني واقفة.


داعبها زوجها:
ـ يا ولية أنت وتد ياما سندت ضهري عليك:


وجه دفة الحوار ناحية (يسري) متجنباً ملاقاة عينيها:

ـ وأنت حلمك أيه؟


ابتسم لزوجته بعد لحظة صامتة:

ـ اتربيتي على أيدي بعد ما أتولدت في مركب أبوك، ورش الميه كان هو لعبتنا، وكبرنا ومهرك كان الفلوكة دي ـ مشيراً نحو قارب صيدهم المجاور ـ وفاتت سنة:


نظر بعيداً نحو البواخر التي تجوب النهر ومن خلفهم الكازينوهات الممتدة على الشاطئ الآخر:

ـ عارفة يا بت، كان نفسي نقعد هناك ايام الخطوبة في أي كازينو، نمسك أيدين بعض ونبص للميه، وفي أخر القعدة أطلع كام جنيه من جيبي معرفش عددهم، واسيبهم على الترابيزة ونمشي:


مسح وجهه بكفه:

ـ صحيح أنا طول عمري عايش هنا على النيل، بس كان نفسي أعرف اللي بيقعدوا هناك بيحسوا بأيه.


ربتت زوجته على يديه بأعين ودودة، قاطع (الريس رزق) نظراتها قائلاً:

ـ وأنت نفسك في أيه؟


نظرت لموضع قدميها، وهزت رأسها خجلاً:

ـ لأ يابا أنت الأول.


أطل (الريس رزق) بناظريه أمامه نحو زوجته وهي تعيد أدوات مطبخها أسفل القارب، و(ماهر) ينظف ثقوب القصبة بعناية، وتجاوزهما بنظره نحو الفراغ، وشرع في لملمة زكرياته وأمنياته:

ـ البحر زمان كان فاضي علينا، والرزق ياما حتى الصيادين كانوا بيحبوا البحر، والنيل بيديهم سمك على قد حبهم:


ضحك ساخراً:

ـ حتى زمان مكانش في الشاويش عبدالقادر، بس السمك قل والزريعة بياخدوها للمزارع، حتى الزبون مبقاش بيفرق بين سمك المزارع والسمك النيلي:


التفت بنظره نحو قاع النهر:

ـ نفسي لما أموت تربطوا على بطني حجر وترموني هنا.


قاطعته زوجته :

ـ حسك في الدنيا يا (أبويسري)، ربنا يخليك لنا.


رآى على وجهها ابتسامة حزينة، تبعها كسرة عين، مدعية الانشغال بمراقبة (ماهر) وهو يضع سيخاً داخل القصبة، يدفعه للأمام دخولاً وخروجاً لإزالة العوائق من داخل القصبة .


خفض (الريس رزق) رأسه متشاغلاً برفع صوت الراديو، عاقداً حاجبيه، مبدياً الاهتمام بما يسمع:

ـ نستمع الآن أعزائي المستمعين إلى أغنية الذكريات (ليه يا بنفسج) للمطرب صالح عبدالحي.


انفرجت أساريره، قائلاً بصوت باسم:

ـ الأغنية دي سمعتها وأنا عيل من (سي صالح) بيغنيها في (الدهبية) اللي كانت بعد كوبري عباس.


دندن مع الأغنية مستدعياً ذكرياتها في مخيلته، متمايلاً يميناً وشمالاً، إلا أن الراديو صمت فجأة .. خبط على ظهره مرات ومرات، كأنه (قابلة) تحاول إخراج صرخة الحياة من وليد تلقفته على يديها .. لكنه لم ينطق :

ـ يظهر الحجارة خلصت.


لحقته (أم يسري) قائلة:

ـ عندك حجرين قلم يا يسري؟

ـ لأ.

نظر (الريس رزق) للسماء بأعين تملئها خيبة الأمل، بعدما أنقطع حبله السري بالحياة.


وضع (ماهر) فوهة القصبة بعدما أصبحت ناي على فمه عازفاً لحن الأغنية، ارتسمت ابتسامة وجلة بين الحزن والرجاء على وجه ابيه، مسترسلاً مع ذكرياته :

ـ حُسنك في كونك .. بلونك .. تبهج المقهور:


أسدل جفونه عن الراديو مغنياً:

ـ اللي يخونه .. سميره .. في الظلام مكسور:

ـ ليه يا بنفسج .. بتبهج .. وأنت زهر حزين.


غلب على غنائه ضجيج باخرة نيلية ضخمة، تمخر في زهو صفحة النيل، تاركة خلفها أمواجاً عالية تأرجحهم. أدارت زوجة (يسري) وجهها نحو خيالات أضواء العمارات المتكسرة على صفحة النيل:

ـ أني كل ما أخد السمك علشان ابيعه في السوق، بخاف من الناس اللي فوق على البر، بس عارفين أنا نفسي في أيه.. نفسي أسمع رزعة باب.


التفت نحو زوجها واضعة عينيها في عينيه :

ـ أيوة رزعة باب.

تنهيدة

$
0
0


(1)

حضرتَ في صباح يوم جامعي، تخطو بثبات نحو طريقها فهي تعرف أين تضع قدمها، جاءت بكامل زينتها كعهدي بها دوماً، فهي الأجمل بين بنات (الدفعة) على الإطلاق .. أو هكذا أراها:
ـ صباح الخير .. (ياسر) فين؟
ـ مع (أمجد) و(آية) عند مدرج (ألف).

اتجهت نحو المدرج مسرعة، حيث (أمجد) على مقربة من المدرج مع بعض رفاقه:
ـ صباح الخير .. شوفت ياسر؟
ـ في المدرج بيحجز لنا.

دلفت داخل المدرج باحثة عني، رأيتها مشرقة هذا الصباح مقبلة من باب المدرج، أشرت إليها بالصعود للجلوس، لكنها طلبت مني النزول، تركت أدواتي متناثرة على المقاعد، وهرولت نحوها، خرجتَ قبل وصولي إليها، توقفت بجوار باب المدرج متكئة على جداره، دنوت منها على مسافة ليست بالقريبة:
ـ صباح الخير.
ـ أزيك؟

ابتسمت ضاحكاً:
ـ كويس.
ـ بتضحك ليه؟
ـ أبداً .. ندهت علي علشان تقول أزيك؟

ذاغت عينيها وتبدلت ملامحها بين الدلال والحيرة، محتضنة أجندتها:
ـ لأ .. بس حبيت أتكلم معك.

لمحت سراً يجول في مقلتيها:
ـ عينيك بتلمع، اعترفي.

ـ تعرف أشرف زاهر؟
ـ أيوة.
ـ أيه رأيك فيه؟
ـ من أي زاوية؟

نظرت نحو أظافر قدمها البراقة المطلة من مقدمة حذائها الخريفي، بلونها الأحمر الزاهي:
ـ اتقدم لي امبارح.

أصابني الوجوم.. وتقلصت ملامحي:
ـ بس .. بس خطوبتك الأولى اتفسخت من شهر.
ـ علشان كدة لازم أتخطب بسرعة.
ـ ليه لازم؟
صمتت ثم ورفعت رأسها:
ـ أنا محتارة، وعايزة اعرف رأيك؟

وضعت يدي في جيبي بنطالي، نظرت إلى ما كانت تنظر إليه في الأرض، قبضت أظافر قدميها، خبئتهم داخل حذائها تاركة مساحة منمنمة بحجم مرآة ظافرها الأكبر، غُوصت عبر تلك المساحة عائداً إلى لقائنا الأول العام الفائت.

(2)
كنت واقفاً بذات هيئتي على باب المدرج بحيوية أكثر بين رفاقي، تملئنا البهجة في ملابسنا (الكاجول) بعد نزع (الزي المدرسي الموحد) منطلقين نحو آفاق عنفوان شبابنا مغادرين مراهقتنا  بالكاد، تعلوا ضحكاتنا كلما روى علينا (أمجد) إحدى نكاته الإباحية.

وقعت عيني عليها في تلك اللحظة قادمة نحونا، لم استطع أن أغلق فمي الشاغر، أقبلت بشعرها الكستنائي المتهدل فوق جبينها الأبيض يدنو من عينيها العسليتين، متطايراً خلف كتفيها على وقع دبيب كعب حذائها، يمنحها ثقة بادية على نظراتها غير العابئة بمن حولها، مرتدية فستاناً أخضر زيتوني من التريكو فضفاضاً يمنحها جناحين ملائكيين ضيق عند نهايته فوق الركبة بما يشبه البرميل، يخفي قواماً من المرمر، تبدو بعض ثناياه بين خطوة وأخرى، تجاوزتنا نحو المدرج، تاركة خلفها عطراً سلبني لبابي.

أغلقت فمي سائلاً (أمجد):
ـ مين دي؟
ـ (أمل وجدي) بتقعد دايماً جنب (آية).
ـ هحضر معاكم النهاردة.
ـ ليه .. أنت مش حرف (الياء) وحضورك في مدرج (جيم)؟

دفعته أمامي متجاهلاً سؤاله، وصعدت درجات المدرج على مهل خلفه، وعيني لا تفارقها وهي جلوس بجوار (آية) على الحافة المقعد، تخرج من حقيبتها قلم، أجندة، والبوم صور، جلسنا خلفهن، ورأسهن متلامستين يشاهدن البوم الصور وتتبادلن الهمس والضحكات المكتومة:
ـ صباح الخير (آية).
التفتت خلفها:
ـ أهلا أمجد، ياسر!

لحقتها قبل أن تستفيض في استفسارها عن سبب وجودي ضيفاً على مدرجهم، مشيراً بعيني نحو صديقتها:
ـ اه ياسر، معاك قلم سلف؟

ادعت البحث في حقيبتها:
ـ ايوة .. بس.. معك قلم زيادة (أمل)؟
ـ اه .. اتفضل.

أمسكت (آية) بالفلم ومازالت على وجهها علامات الحيرة:
ـ اتفضل يا عم ياسر.
ـ شكراً.
ـ الشكر مش لي الشكر لآنسة (أمل).

ابتسمت محاولاً الإطالة:
ـ شكراً آنسة أمل.

عقبت دون أن تلتفت خلفها:
ـ العفو.

عادتا لمتابعة الفرجة على الالبوم، ومن خلفهن أتبادل الهمس مع (أمجد) بتعليقات أثارت ضحكاتهن، مما أذاب المسافة الجليدية بيننا جميعاً، إلا أن (آيه) بقيت شاردة الذهن، حتى سمعناها قائله:
ـ عندك مانع نفرجهم على الالبوم؟

ترددت قليلاً، ثم قالت:
ـ طالما بقينا أصدقاء.. مفيش مانع.

وضعته أمامنا:
ـ اتفرجوا بهدوء.

انقضضنا عليه مقلبين صفحاته، تبلدت ملامحنا عندما شاهدنا صورً لحفل خطوبة:
ـ دي خطوبتها يا ياسر؟
ـ ممكن تكون خطوبة أختها.
ـ البنات بتتشقلب في السواريه.. وبتبقى حاجة تانية.
ـ تفتكر؟
ـ أيوة.
ـ لاحظت دبلة في إيدها قبل كدة؟
ـ مأخدتش بالي .. إحنا نقول لها مبروك ونشوف رد فعلها.

أعادنا الالبوم، قائلين في صوت واحد:
ـ مبروك.

لحقتنا (آية) بالإجابة:
ـ الله يبارك فيكم، عجبتكم صور خطوبة أمل .. اتخطبت لابن عمها في الصيف وسافر للخليج.

دخل المدرج حاملاً حقيبته، واعتدل الطلبة في جلوسهم على إثر حضوره، وبقيت متبلداً في موضعي، نقر ثلاث مرات بأصبعه على الميكرفون:
ـ صباح الخير، موضوع محاضرتنا النهاردة عن (النسق الإجتماعي).

(3)

صدمت لبعض الوقت، لكنني لم أتألم كثيراً، إلا أن خطبتها لم تثنيني عن الحضور في مدرج (ألف)، وهجرت مدرج (جيم) متحيناً أي فرصة للتقرب إليها، ملازماً لها حتى ولو من بعيد حريصاً على أن جلوسي خلفها بصف أو صفين بزاوية مائلة تبقيها دوماً في مرمى بصري، توطدت علاقتنا أكثر فأكثر، وإذا ظفرت بمقعد بجوارها كأنما امسكت بالدنيا وما عليها.


لم أسلم من تعليقات بعض الزملاء، وكلما وجه إلي احدهم اللوم، مستفهماً عن ماهية العلاقة، أستنكر سؤاله معللاً:
ـ دي مخطوبة.. أنت اتهبلت!

مع مرور الوقت أصبح خفقان قلبي مصاحباً لجلوسها بجواري، مستعذباً عذابي قابضاً على مشاعري الأفلاطونية نحوها، وكان مجرد جلوسها بجواري هو السلوى، وأصبحت صديقها الأقرب لما وجدته لدي من صدق في النصيحة ورجاحة في الرأي كما تقول، ولم تعد تخفي علي أمر حتى أدق تفاصيلها العاطفية.

أطلعتها بدوري على خواطري، عندما وقعت عينيها على إحداها لأول مرة أثناء محاضرة الأنثروبولوجيا، حينما أمسكت بقلمي الرصاص أخط كلمات تحمل بين ثناياها قدراً من التلميح لا التصريح، جذبت الأجندة من بين يدي وقرأت:
"رؤية

هى الدنيا كده بحالات
ساعات تدينا وتكفـْينا
وساعات تُخنقنا من سُـكات
ولو الفرح فى مره زاد
نضحك بخوف من بـُكره اللىِ جاى
لا بغدره يبكينا ويـِكسرالضحكة فينا
والآه تخلع قُلوبنا ونعيش زى الجماد
وفي العتمه نقف نصلي
يا رب إحفظنا فِ ثبات
ونرجع نُـشكر على الفرحة القليلة
حتى لو كان عمرها ساعات"

ـ الله .. أنت شاعر بقى وأنا مش واخدة بالي.
ـ لا شاعر ولا حاجة .. دي مجرد شخبطة.
ـ ماشي لما تكتب حاجة بعد كدة أبقى خلينا اقرا شخبطتك.
ـ أوك.

عادت لمتابعة سماع المحاضرة، وبقيت منشغلاً بما قالت، هل من الممكن أن أصرح لها بما يعتريني من مشاعر نحوها عبر الخواطر؟ أأعترف؟ وإذا فعلت .. أليس من الممكن أن أخسرها للأبد؟ وكيف لي أن أفعل وهي مخطوبة؟ نفضت عني أفكاري الشيطانية مكتفياً بمنزلة الصديق .


لم تمنعني الإجازة الصيفية من التفكير فيها، وازدادت لوعتي مع انعدام المبرر الدراسي لإجراء مكالمة هاتفية تكسر قيظ الصيف.. وفي منتصف عامنا الثاني نخرت قواي بعدما بلغت مشاعري مبلغها، إلى أن جاءت يوماً معلنة عن نهاية خطبتها من ابن عمها، دون أسباب مفهومة، معللة ذلك بأمور عائلية ذات صلة بالقرابة بين الأسرتين، دبت الحياة في أوصالي تاركاً لها فترة للنقاهة .. حتى تتجاوز أزمتها كي أعلن لها عن سري الدفين، رافضاً أن أستغل الموقف وأدخل حياتها من باب الحب البديل.

(4)

دبدبت بقدمها على الأرض، حيث أنظر:
ـ ياسر.. أنت سرحت ولا إيه؟

أخرجت يدي من جيبي بنطالي، ورفعت رأسي نحوها:
ـ أبداً.

ـ مقولتش رأيك في أشرف زاهر؟
ـ أشرف من عيلة ومبسوط، بس..
ـ بس أيه؟

نظرت في عينيها:
ـ يعني مش عارفة؟
ـ قصدك علاقاته !! كل الشباب كده وبعد الجواز بيتغيروا.
ـ تفتكري؟
ـ أعمل ايه يعني .. أنا لازم اتخطب بسرعة، ومفيش حد اتقدم لي غيره.


شعرت أنني أقف على حد السيف، لا يفصل بيني وبينها سوى تلك المسافة القصيرة بيننا. متحيراً في أمرها .. ألم تجد غيري تسأله عن (عريس الغفلة) الراغب في احتلال مكانة أنا جدير بها؟ تسارعت دقات قلبي على نحو مسموع .. أأخبرها! أم أستمر في صمتي! لاعناً صمتي ما حييت بإهداري لفرصتي الأخيرة .. فأنا الآن على المفرق.

شقت الأحرف طريقها جاهدة للخروج من حنجرتي، ناطقاً بصوت غير مسموع:
ـ ممكن يكون في حد بيحبك أكتر منه.

قالت بلهفة:
ـ مين؟

صمت غير قادر عن النطق .. توددت متوسلة بعينيها.. إلى أن رأيت البرهان في بنانها يستجديني:

ملئت رئتي بالهواء.. مخرجاً تنهيــــــــــــدة طويلة .. طويلة.

ـ أنا .. أنا بحبك.

عادت بنظرها أسفل قدمها، قائلة:
ـ كنت عارفة من زمان.

أطمئن قلبي وهي مسترسلة:

ـ حسيت بده في خواطرك.

قاطعتها:
ـ كنت مخطوبة .. وخوفت اخسرك.
ـ بس .
ـ بس أيه؟
ـ مقدرش استنى.. وأنت قدامك كتير.
ـ ممكن فعلا يكون قدامي شوية بس محدش هيقدر يسعدك زيي.

ـ السعادة في إني أقدر أجيب اللي انا عايزاه، والحب يجي بعدين .. وأنت.
ـ أنا أيه؟
ـ وأنت لسه في بداية حياتك.. ومش كفاية حب الخواطر.

قالت جملتها الأخيرة، مع هرولة الطلبة يسبقون الدكتور إلى المدرج، أنهت كل شيء هكذا بجملة إجرائية:
ـ المحاضرة هتبدأ.
ـ اتفضل أنت.

دلفت داخل المدرج غير منتظرة سماع إجابتي، وارتقت الدرجات نحو مقعدها، امسك الدكتور بباب المدرج:
ـ مش هتدخل؟

نظرت إلى اللوحة المكتوب عليها "مدرج ألف"، وهززت رأسي نافياً:
ـ أنا أخر الحروف الأبجدية.

ابتسم مهوناً .. وأغلق الباب.


ـ تمت ـ

 ===================
الخاطرة للمدونة الراحلة / كارولين

أم رضا

$
0
0

حضرت ابنتاها الكبرى والوسطى قبل الظهيرة لمساعدة الصغرى في نقل بعض الأثاث إلى السطح لتوسعة الشقة ذات الحجرتين وصالة، كي تستوعب من سيأتون للتهنئة والاحتفال معهن بليلة الحنة لأختهن الصغرى، تركت أم رضا بناتها يعددن الشقة للازدحام المنتظر، وخرجت إلى شرفة شقتها بالطابق الأول، جلست على مقعدها متكئة بمرفقها على سور الشرفة واضعة يدها على خدها.. تتابع المارة في الشارع.

شرد ذهنها مستذكرة يوم وفاة زوجها بمرضه العضال بعد اهتراء كبده جراء تناوله لمشروبات كحولية رديئة الصنع بخسة الثمن، رحل عنها تاركاً لها معاشاً هزيلاً لا يكفي لشراء الخبز فقط وثلاث بنات أكبرهن في الإعدادية.. تذكرت ذلك المشهد وهو ينزل من بيته لآخر مرة في نعشه وبناتها يبكين على صدرها حزناً على الأب الذي رحل، وتبكي هي خوفاً مما يخبئه الزمان لبناتها.

شاهدت من شرفتها "الكهربائي"على دراجته و"عامل الفراشة"على "عربة كارو"تقف أمام بيتها حتى يعلق الزينة لاحتفال الليلة وزفة الغد.. تذكرت قبل سنوات ليست ببعيدة ابنتها الكبرى "رضا"وزواجها من جارهم أمين مخازن المدرسة الابتدائية المجاورة، حينما جاءت أمه في ليلة شتوية تدق الباب:
ـ أهلاً وسهلا، خطوة عزيزة.

جلست أم العريس على الكنبة القريبة من باب الحجرة، وافترشت "أم رضا"الأرض على يمينها العديد من البرطمانات الزجاجية الفارغة، وعلى يسارها أغطية تلك البرطمانات وأمامها "وابور جاز"عليه وعاء كبير تقلب فيه الحلبة المطحونة بعدما أضافتها إلى العسل الأسود أثناء غليانه:
ـ صلي على النبي يا "أم رضا"من غير لف ودوران، أنا جاية أخطب بنتك لابني.. قولتي إيه؟

رفعت الوعاء من على النار ووضعت آخراً به زيت أضافت له دقيقا وسمسما وفول سوداني وهي تقلب الخليط دائرياً، بابتسامة حذرة ترتسم على شفتيها أجابت:
ـ أيوه بس اسم النبي حرسه لسه يعني متأخذنيش ميقدرش يفتح بيت، والبت كمان لسه في "الدبلون".
ـ هاخدهم يعيشوا عندي وأهو يونسوني في آخر أيامي.
ـ ألف بعد الشر عنك إن شالله اللي يكرهوكي.
ـ تعيشي يا ختي، قولتي إيه؟

أصبح لون الخليط ذهبياً، دمجته بالعسل الأسود والحلبة المطحونة.
ـ حصلت لنا البركة، إحنا في ديك الساعة لما نناسبكم.
ـ طول عمرك أحسن واحدة في الحتة بتبيع "مفتقة".
ـ تعدميني لو مأخدتيش برطمان "مفتقة"وأنت نازلة.

لفت انتباهها وهي في الشرفة حوارا دائرا بين "الكهربائي"في الشارع مخاطباً جارتها الواقفة في الشرفة المقابلة لها:
ـ ممكمن أعلق "فرع نور"في منشر البلكونة؟

رفعت صوتها عالياً:
ـ أيوه يا خويا وماله، الجيران لبعضها، ألف مبروك يا "أم رضا".

صعد على السلم النقال الخشبي بمهارة بالغة حتى وصل إلى السلمة قبل الأخيرة، لف قدمه للجانب الآخر من السلم كأنه ممتطياً "جواداً"وكلما علق جزءا من شريط مصابيحه الملونة، انتقل برشاقة إلى الطرف الآخر من الشرفة محركاً السلم أسفل منه، متكئاً على الجدران كأنه لاعب أكروبات، نزل من على السلم وحمل بيديه "تاج نور"علقه على باب بيت "أم رضا"كُتب عليه "مبروك للعروسين".

مرت أمامها "عربة كارو"محملة بالفاكهة تبعتها بنظرها حتى انعطفت يميناً، مستذكرة قبل عامين عندما كانت تساعدها ابنتها الوسطى في شراء "المشمش"و"العنب الفرط"من سوق الخضار، تساعدها بعد ذلك في غسلهما وتصعد بهما إلى سطح البيت وتفردهما على ورق جرائد في الشمس حتى يجف "العنب"متحولاً إلى "زبيب"و"المشمش"إلى "مشمشية"، ثم تبيع ابنتها الفاكهة المجففة إلى الحلواني القريب في الميدان، جاء "أم رضا"في أحد الأيام شاب يسأل عنها:
ـ اتفضل يا ابني، ثواني أعملك الشاي.
ـ مفيش داعي يا حاجة أنا جاي في كلمتين، أنا بشتغل "كاشير"في الحلواني اللي بتبيعي له المشمشية والزبيب.
ـ أهلا وسهلا يا ابني، المشمشية والزبيب فيهم حاجة؟
ـ أبدا تسلم ايديك، شغلك زي الفل، أنا جاي في موضوع تاني.
ـ خير؟
ـ أنا كنت جاي طالب ايد بنتك؟
ـ بس احنا منعرفش عنك حاجة؟
ـ اسألي عني يا حاجة صاحب المحل، أنا عندي شقة في بيت أبويا شطبتها من مجاميعه، واتفضلي اتفرجي عليها أنت والعروسة لو وافقت يعني.

ابتسمت لصدقه الواضح على ملامحه، والفرحة البادية في عين ابنتها المتابعة للمشهد من خلف الستارة.
ـ ربنا يقدم اللي فيه الخير يا ابني.

دخل الشرفة عامل "الفراشة"في يده لفة من الحبال ومكبر الصوت، علق المكبر بالشرفة قائلاً:
ـ كدة تمام يا اسطى.. شغّل.

سمعت أزيزاً عالياً في مكبر الصوت جاء بعده:
ـ ألو … ألو … 2 … 4 … 6 … 8 … فراشة "حسن وحسين"تتمنى زواجاً سعيداً للعروسين.

تبعته "زغرودة"تركت دوياً كبيراً بعدها.

شعرت "أم رضا"بخصلة بيضاء من شعرها تلامس كف يدها الملامس لخدها، تركت مقعدها في الشرفة، تطلعت إلى نفسها في المرآة شاهدت بعض الشعر يتدلى خلف أذنيها، فكت "الطرحة"السوداء التي لا تفارق رأسها، لملمت شعرها جيداً و"اعتصبت"بالطرحة وهي تنظر للمرآة بتحدٍ.

أمسكت "بالميكروفون"موجهة الدعوة لكل جيرانها عبر "مكبر الصوت"لحضور حنة ابنتها الصغرى والأخيرة، مختتمة حديثها بحرقة:
ـ أم رضا جبرت.


توكة شعر

$
0
0
ـ أجيب لك أيه يا بنتي؟

وضعت في يده جنيهاً:
ـ توكة شعر.

ومضى شهر ..

ودعت زميلاتها الأكبر سناً بعد يوم شاق على باب معمل حلويات "الموناليزا"، لفحت وجهها الخمري المتقيح نسمة شتوية باردة، أغلقت أخر أزرار (سفرة) جلبابها الكستور الباهت بخضار ورداته، أمسكت من فوق جلبابها "بأستك"بنطلونها الكستور السماوي ورفعته أعلى وسطها ، ثم قبضت بيمينها على "ماهية الشهر"في جيب جلبابها "المكشكش"من وسطه والمنتهي فوق الركبة، جذبت ضفيرتها المجدولة والمتدلية أسفل إيشاربها الأبيض، وتركتها فوق كتفها تلامس صدرها النابت، خطت نحو بيتها للأم المنتظرة والأخوات الأصغر بخطوات مثقلة، مُصدِراً حذائها البلاستيكي مع كل خطوة أصوات منفرة .

توقفت في طريق عودتها أمام الواجهة الزجاجية لمحل (خردوات أبولطفي)، تشاهد معروضاتها المتربة، سقطت عينيها على أول الرف العلوي، يجلس يميناً دب ابيض ممسكاً بقلب أحمر، بجواره أرنب وردي، يليه كلب بني، وفيل رمادي، أغمضت عينيها لثوان متخيلة ملمسهم الناعم على خدها، رأت نفسها تلعب بهم ويلعبون معها، وخيرتهم أيهم يفضل أن ينام بجوارها؟ سمعت العراك الدائر بينهم من أجل فوز أحدهم بالنوم في حضنها .. نظرت إليهم في دلال وثقة بالنفس لحسم الخلاف الدائر بينهم :
ـ اخترت الأرنب الوردي علشان أحط ودانه الطويلة تحت خدي وانا نايمة.

قالت هذا وابتسامة سعيدة تملئ وجهها، كتلك الابتسامة الدائمة على وجهة الأرنب الوردي.

استفاقت عندما رأت على الرف الأسفل عدة ملاقط مختلفة الأحجام وعلب أدوات مكياج واحدة دائرة وأخرى مستطيلة ، وثالثة على شكل قلب، شبت على أطراف أصابعها حتى رأت وجهها في مرآة علبة المكياج المفتوحة، غرقت في المرآة حتى ظنت أنها تمسك بالملقاط تشذب وجهها، عقدت حاجبيها متألمة مع كل شعرة شاردة تنتزعها، أمسكت بفرشاة وغمستها في لون وردي، ومررته على خديها وبطول أنفها ورقبتها، وأغمضت عين وفتحت الأخرى وهي ترسم ظلالاً أعلى جفونها بنفس درجات الألوان التي تضعها زميلاتها في العمل قبل نهاية يومهم، بدت أسنانها الصفراء خلف ابتسامتها العريضة عندما وقت عينيها على قلم أحمر الشفايف، فتحته بروية متأمله صعوده اللولبي .. ومررته على شفتيها حتى رأت ابتسامة براقة بلون دم الغزال في المرآة.

شاهدت في الرف التالي مجموعة أقلام مختلفة الجاف منها والرصاص وعلب الوان وكراسات رسم، تخيرت قلم رصاص أصفر ممحاته حمراء، خرجت منها ضحكة طفولية عندما ذكرها برجلاً من زمن أفلام الأبيض والأسود يرتدي طربوش بدون زر، أمسكت بالقلم وفتحت الكراسة، ورسمت يومها .. في الصفحة الأولى تنظف معمل الحلويات بعدما انتهت هي وزميلاتها من الإفطار، ورسمت في التالية وهي تجذب "جوال دقيق"من المخزن، وفي أخرى وهي تنظف أواني يكبرونها حجماً، وفي رابعة رب العمل يفرك أذنها بإصبعيه وهو يشير نحو بعض البقايا أسفل "العجانة"ويمد قدمه متحسساً الأرضية المبللة بعد المسح.

جذب انتباهها الرف الأخير بإكسسواراته النسائية،  أقراط ألوانها زاهية وأخرى داكنة، يليهم أساور وقلادات، وغوايش وتوك، عقدت حاجبيها متحيرة هل القرط الطويل الأسود أنسب لوجهها الدائري؟ أم الفيروزي القصير؟ وهل تختار معه القلادة الفضية؟ أمسكت بذقنها وتقلصت ملامحها، حتى استقرت على قلادة فيروزية تليق على القرط، أومأت برأسها متيقنة من ذوقها الرفيع عندما رأت سواراً فيروزياً، وهزت رأسها مطبقة على شفتيها ومؤكدة لنفسها حُسن اختيارها.

أخرجت يدها من جيبها وعدت (ماهية الشهر)، وتوغلت داخل محل الخردوات، نهض (أبولطفي) المراقب لها منذ توقفت أمام محله يتابع أمانيها:
ـ أجيب لك أيه يا بنتي؟

وضعت في يده جنيهاً:
ـ توكة شعر.

وخمسة

$
0
0
تسلل شعاع شمس الصباح الأخير لهذا العام إلى مخدعه مداعباً جفونه، حاول إزاحته بيده لكنه لم يستجيب، نهض متململاً بعد رنين منبهه في السابعة وخمس دقائق، ذم بنطلون بيجامته الحريرية حول خصره، مسح مرآة الحمام الضبابية بظهر يده، متحققاً ممن يبدو فيها، تحسس لحيته النابتة بأطراف أظافره، تيقن من صوت احتكاكها بأنها تستحق الجز.

أنهى طقوسه الصباحية بالحمام، ارتدى بذلته الصوف الرمادية ذات الخطوط المتقاطعة متدثراً داخلها بجسده النحيل، حمل حقيبة أوراقه من خلف باب حجرته الشاهق في الثامنة وخمس مثلما يفعل منذ زواجه، أطلت عليه بابتسامتها المشرقة وملابسها البيضاء الشفافة بالرغم من برد ديسمبر، جذبت له مقعدًا، ومدت يدها بقطعة توست مغطاة بالزبد والتوت البري، لثمت خده بقبلة صباحية مقدمة إليه قهوته.

ذكرته رائحة القهوة بأمه حينما كانت تجلس مجلسها بجوار أبيه، يلهو بينهما في بهو شقتهم العتيقة، مختبئاً من نظرات أبيه خلف ذلك الجدار الفاصل بين مجلسه والشرفة المطلة على النيل، شاهد على الجدار ساعة (شارلي شابلن) المعلقة على الحائط بدقاتها الدءوبة والتي اشتراها له ابيه لينضبط في مواعيده ومذاكرته.

نبتت على شفتيه ابتسامة وجلة، مستذكراً تعنيف ابيه لتأخره الدائم على موعد مدرسته، فر منه حينها مختبئاً خلف جدار الساعة، مطلاً من ورائه مثلما أطل (شابلن) حذراً من رجل الشرطة في لقطته الشهيرة بفيلمه الصامت "الطفل"، حينها صدحت ضحكة أبيه، مشيراً إليه بالإسراع إلى مدرسته.

استفاق على دقات الثامنة والنصف، اسرع وفاءً لأبيه، حمل حقيبته مسرعاً نحو الباب، جذبت زهرة توليب بيضاء من المزهرية، ولحقته:
ـ مامي حجزت لنا في مركب نقضي فيها أول راس سنة تعدي على جوازنا واحنا في عرض النيل.

نظر لحقيبة يده ولها، هز رأسه مطمئناً، طوقت رقبته، ضمها بيده الخالية، ناظراً في ساعة يده الحاملة للحقيبة.. مط شفته قائلاً:
ـ بقت وخمسة.

هرول إلى طلب المصعد، لحقته بالتيوليب:
ـ خليها جنبك علشان متتأخرش علي.

ركل المصعد، ونزل على السلم، ترك (التيوليب) على المقعد المجاور، منطلقاً بسيارته، أعترض طريقه زحام زائد عن الحد، صرخ في السيارات المعترضة طريقه غاضباً:
ـ مستعجل على أيه .. هي السنة الجاية مش هتيجي بكرة؟

وصل مقر شركته العقارية متأخراً، أخرج من حقيبته ملفه المتخم، "التقرير المالي للاجتماع التحضيري لمؤتمر السندات العقارية"، واتجه نحو قاعة الاجتماعات.

اعترض طريقه اثنان من زملائه اللدودين، خاطب أحدهما الآخر:
ـ تشير ساعة جامعة القاهرة إلى العاشرة وخمس دقائق.

احتل مقعده على في الاجتماع، مقدماً تقريره لمديره بابتسامه متملقة، وضعه أسفل كافة التقارير متأففاً، تأملهم واحداً تلو الآخر، معيداً كل ملف إلى صاحبه مشيداً بالبعض، وملفتاً انتباه البعض الآخر، إلى أن وصل إلى آخر التقارير، تأمله متمعناً ، زينه بعلامة (X) كبيرة.

حدق به مديره حانقاً:
ـ إيه الكلام الفارغ ده، مش كفاية تأخيرك المتكرر، كمان تقريرك كله أخطاء، راجع أرقامك يا أستاذ، ومتسيبش مكتبك النهاردة قبل ما تبعتلي (إيميل) نهائي.

خرج الجميع من حجرة الاجتماع مطأطئين الرؤوس قاطعين الأنفاس، جلس على مكتبه كابتاً غيظه، أغلق هاتفه وحواسه، منكباً على تقريره، توالت الساعات والفناجين.

أعتدل في جلسته متألماً من ظهره بعدما أرسل (الإيميل)، تلفت حوله لم يجد أحداً، أدار محرك سيارته وفتح الراديو، نذيع عليكم نشرة الحادية عشر مساءً، في الساعة الأخيرة لهذا العام أعزائي المستمعين، التفت ناحية التيوليب الموشكة على الذبول.

فتح باب شقته، صرخت زوجته في وجهه:
ـ حرام عليك، شوف كام إتصال بتليفونك.

أغمض عينيه متجهاً ناحية شرفته المطلة على النيل، لمح ساعة (شابلن) تشير إلى الثانية عشر ليلاً وخمس دقائق.


ملئ صدره بهواء عامه الجديد، نزع عنه سترته الرمادية، نافضاً أعباء عامه المنصرم، أطل من خلف الجدار المعلق عليه الساعة، نظر إليها بنفس نظرات شابلن مبتسماً، بادلته الإبتسامة، أعاد عقارب الساعة خمس دقائق للخلف .. مستعيداً زمنه.

كأنني..

$
0
0
ـ البقاء لله.. ربنا رحمها من تعبها..
هكذا علمت صباحاً بكلمات مقتضبة.

حاولت اللحاق بك وما كان لي، حالت المسافات بيني وبينك، إلا أن تلك المسافات لم تحول بيني وبين الصلاة عليك، صليتها ظهراً وحدي مختلياً بك.. مُسجيه أمامي في نعشك.

وحين كنت في طريق عودتي معلق بين السماء والأرض، كنت تصعدين من الأرض إلى السماء.. نظرت من نافذة الطائرة، متفحصاً السحب من حولي، باحثاً عن وجهك.

بكيتك حينها.. بكيت من تفتحت حواسي عليها، ملاذي وحائط دفاعي الأول.. بكيت صمودك وإباءك في مجابهة عناء السنين.. بكيت زغرودة تخرجي وتسامرنا وحكايانا.. بكيت جلوسي على حِجرك.. بكيتك في صمت بدموع متحجرة.

ادعيت الشجاعة والبأس إلى أن لحقت بعزائك مساءً، حين تلاقت أعيني بأعين من يعرفونني ويعرفونك، كانوا أكثر يقيناً وصبراً ربما لتمكنهم من إلقاء النظرة الأخيرة عليك، لكنني أعترف بعدم رغبتي في هذه النظرة، فقد تعلمت من الغربة أن لا أأمن مكرها، ولدي النظرة الاخيرة عندما تركتك أخر مرة وأنت.. أنت .

هكذا اعتدت من الغربة، لا تسمح لي بالاستماع لصرخة ميلاد ابني، وأن لا أقف على دفنتك، مكتفياً بتطبيق فلسفة "كأنني".. نعم كأنني سمعت صرخة ميلاده، كأنني صليت عليك.. وكأنني.. وكأنني..

وأنفض العزاء غير مستوعبٍ لغيابك، ربما لأنني دوماً في حالة غياب وأنت دوما حاضرة، مطمئنًا لتواجدك، وبالفعل أنت مازالت حاضرة.. فمازال الحبل السري بينا لم ينقطع.


"ماما يا حلوة .. 
يا أجمل غنوة .. 
عايشه في قلبي وجوه كياني".
Viewing all 58 articles
Browse latest View live


Latest Images