لم يسمع جرس الباب المتداخل مع صوت خرير الماء وهو يتوضأ لصلاة الفجر، سُحب مزلاج باب الشقة تبعه "أزيز"مفاصل الباب الصدئة في سكون الليل، جفف ساعديه خارجاً من الحمام، رأى ظهر الشغالة المسرعة إلى الداخل فوق رأسها "صاجات"الكعك مخاطبة زوجته:
ـ حططيني يا حاجة.
رفعت زوجته ـ ذات الأصول التركية ـ يديها لأعلى لمساعدة الشغالة فيما تحمله، هبطا سوياً لأسفل حتى استقر المقام بالصاجات فوق مائدة السفرة في الصالة الطولية المليئة بأبواب شامخة أعلى منها سقف شاهق، نظرت زوجته للكعك:
ـ جوزال ـ جميل ـ سعدية جوزال.
ـ الحمد لله إننا خلصنا.. "الفرن الإفرنجي"زحمة موت.
داعبت رائحة الكعك الذكية أنفه وهو متجه لحجرته، مستمعاً لحوارهما:
ـ ممكن السكر السنترفيش من المطبخ.
ـ حاضر.
خرج من حجرته مرتدياً جلباباً أبيض على رأسه "طقية"بيضاء مدارياً بها رأساً خاويا إلا ماندر من شعر أشيب، اتكأ على عكازه ذي القطعة الكاوتشوك لتجنب ضجيجه كلما اصطدم بالأرضية "الباركية"باهتة اللون، ألقى بنظرة عابرة أثناء نثرهما السكر فوق الكعك، أشار لزوجته وهو يفتح الباب ضاماً سبابته وإبهامه وهو يحركهما في إشارة تعني "نقودا"قائلاً:
ـ كل سنة وأنت طيبة يا "سعدية".
ـ وأنت طيب يا عم الحاج.
صلى الفجر بالزاوية القريبة من بيته التي يقضي بها كثيراً من وقته بعد تقاعده على المعاش بدرجة وكيل وزارة سابق، كبر مع المصلين ثلاث مرات تكبيرات العيد، عاد لبيته بصحبة عكازه، أدار المفتاح في باب شقته، امتلأت المائدة بأصناف شتى من الكعك والبسكويت والغريّبة والبيتي فور غلبت رائحة المحوجة على كافة الأصناف، ابتسم قائلاً:
ـ لسه بتعملي محوجة يا حاجة؟
محاولة إخفاء الإرهاق البادي على ملامحها:
ـ أكتر صنف بيحبه الولاد.
ـ "سعدية"روحت؟
أدارت رأسها للخلف متابعة خطواته بصوتها:
ـ أيوه، هتعيد مع أمها وبتشكرك.
ـ مش هتريحي شوية مقعدتيش من صباحية ربنا.
ـ هاحضر نصيب كل واحد من الولاد، وأجهز الفطار.
أخذته غفوة على سريره، أيقظته تكبيرات العيد من كل حدب وصوب، نهض من فراشه مجدداً وضوءه، مخترقاً مسامعه صوت بعض الأواني بالمطبخ. انتفضت زوجته بالمطبخ على صوت الباب أثناء خروجه مرددة داخلها:
ـ إيفت ـ أيوه ـ كدة "شنطة"لكل واحد من الولاد، أحضر الفطار بقى.
عاد بعد سماعه خطبة صلاة العيد، استقبلته حفيدته الصغرى ذات السنوات الثلاث:
ـ تُل سنة وأنت طيب يا ديدو.
انحنى إليها مستعيناً بعكازه ليقبلها واضعاً في كفها الصغير عشرة جنيهات:
ـ وأنت طيبة يا حبيبة جدو.
ضمت كفها الصغير حول أصبعه متجهة به إلى مائدة الإفطار استقبلته ابنتاه الكبرى والوسطى وزوج كل منهن وولده الوحيد وزوجته:
ـ كل سنة وأنتم طيبين يا ولاد.
لم تتوقف أيديهم عن أهدافها على المائدة، قائلين بأصوات متباينة:
ـ وأنت طيب يا بابا.
وجه نفس الجملة لأحفاده بالحجرة المجاورة له، لم يلتفتوا لمصدر الصوت وأعينهم لا تفارق شاشة التليفزيون وكل منهم بيده طبق قائلين في صوت واحد:
ـ وأنت طيب يا جدو.
اعتدل في جلسته، متبادلاً ابتسامة صامتة مع زوجته وهي في مقعدها المقابل له وأولادهم حولهم، كسر الصمت زوج ابنته الكبرى الممسك بعود جرجير وهو ينفضه من الماء وفمه ممتلئ:
ـ العيد السنة دي ملوش طعم.
أيدته في الرأي زوجته:
ـ أيوه، فين أعياد زمان.
تابعت زوجة الابن على الجانب المقابل من المائدة الحوار الدائر رافعة نصف حاجبها امتعاضاً، لمحت الأخت الصغرى زوجة أخيها، ومالت على أختها المجاورة لها وغمزتها بمرفقها في غفلة من الجميع، قالت أختها:
ـ أي، بتزغدي ليه؟
كتمت غيظها من أختها التي كشفت أمرها:
ـ أبداً، ناوليني الجبنة.
انتبه الابن للحوار الصامت، محملقاً في زوجته، ثم توجه بنظره إلى أمه:
ـ تسلم ايديكي يا ماما، وحشنا فطارك من زمان.
تبعته زوجته وهي تمد يدها إلى طبق "الأومليت":
ـ طبعاً مش "تركية"وحشتني "الضلمة"بتاعتك يا ماما.
عقبت الابنة الكبرى.
ـ الضلمة بس، ماما أكلها كله طِعم.
فضت الأم الاشتباك:
ـ بالهنا والشفا يا ولاد.
جاء الحفيد الأكبر من خلف جده ممسكاً بطبقه:
ـ مفيش كمان يا ماما.
أشارت إليه بعينيها:
ـ طبعاً يا حبيبي قول لـ"آنا".
أمسكت الجدة بطبق حفيدها تعد له مزيجاً من كل شيء، مد الحفيد يده إلى طبق الفول وهو واقف، أعطته الجدة طبقه الذي أعدته وهي تعنفه:
ـ يوك ـ لأ ـ حبيب "آنا"، لازم تاكل وأنت قاعد.
نهض زوج الابنة الصغرى لغسل يديه:
ـ تسلم ايديكي يا ماما، كل سنة وأنت طيبة.
مالت الابنة الكبرى على أختها:
ـ هو جوزك ده هيفضل "نِفري"كده؟
ـ والنبي ما أنا عارفة.
لم يتبقَ على المائدة سوى الأختين وزوجة الأخ التي حملت صينية الكعك متجهة إلى حجرة المعيشة، والابنتان توجهتا إلى المطبخ لغسيل الأطباق:
ـ شوفتي مرات أخوك، إلا ما مدت إيدها على حاجة تساعدنا.
ـ يادوبك ودت الكحك.
ـ على رجليها نقش الحنة.
انتظر زوج الابنة الكبرى جلوس العائلة كاملةً أمام التلفزيون بعضهم بيده كوب الشاي والبعض الآخر يأكل كعكاً، استقام في وقفته مخرجاً "محفظته"من جيب بنطاله الخلفي، مشيراً بطرف إصبعه لكل الأطفال بالحضور إليه، بدت العملات الورقية جديدة في جوف محفظته المنتفخة، أمسك بطرف إحدى الورقات مقربها إلى فمه نافخاً فيها الهواء مما أصدر صفيراً:
ـ عيدية تدبح رقبة الحمامة.
تبعته زوجته:
ـ كويس إنك لحقت صاحبك في البنك امبارح.
اعتدل في جلسته واضعاً ساقاً فوق الأخرى:
ـ لولا الواسطة مكنتش جبت فلوس جديدة.
أبدت الجدة انبهارها بذلك الإنجاز الذي حققه، تعالت نغمات الهواتف النقالة المختلفة ما بين الهادئة والدينية والضحكات الرقيعة، معلنة عن وصول رسائل التهنئة بالعيد، ابتسامة عريضة على وجه كل متلق رسالة محاولاً إثارة فضول الحاضرين، وهو يقرأ رسالته مائلاً على من بجواره يقرؤها له كأنه يختصه بسر دفين دون الآخرين، يتبع ذلك نظرة ذهول من الآخر من هول ما اختصه به.. كتم الجد صوت التلفزيون مكتفياً بصورة صامتة لأغاني العيد.
لم يلحظ مضي الوقت، التفت إلى بعض الأصوات بجوار باب الشقة مال إلى الأمام في جلسته متابعاً بنظره خيالاتهم وهم مغادرون وبأيديهم حقيبة "كعك العيد"، تحركها آخرهن لأسفل مستهينةً بوزنها، تبع ذلك صفعة لباب الشقة.
نظر حوله وجد الحجرة خاوية إلا من نظرات الحسرة على وجه زوجته، نهض من مقعده متجهاً نحوها، مد لها يديه ليصطحبها إلى حجرتهما:
ـ الكحك "جوزال"يا هانم.
ربتت على يده المتكئ بها على عكازه:
ـ تشكرات أفندم.